كتب – سيد هويدي
“يا أهل الفنون اتحدوا”، تبدو هذه الدعوة مستغربة، على نشاط إنساني أحد أهم سماته التنوع، بل التفرد، وتعدد الرؤى، فالدعوة تذكرنا من أول وهلة بتداعى سياسى، على طريقة “يا عمال العالم اتحدوا”.
الا أن الفنون التى تحرك الوجدان، و تعكس ثقافة الشعوب، وتحدد الملامح المعبرة عن مناحى الحياة، الفنون المستمدة من وعى عميق كأحد المكونات الاساسية فى ثقافة الامم تواجه الآن أزمة وجودية، وعدم اعتراف اجتماعي واقتصادي، ورغبة العولمة فى تجاوز العناصر المكونة للثقافات.
في الوقت الذي تراجعت فيه الطبقة الوسطي، وضعف الاستثمار سواءا فى السنيما او الفن التشكيلي أو المسرح، ومع ذلك فإن أهل كل تخصص فنى يعيشون فى جزر منعزلة، في ظل معاناة عدم الاقبال علي الفنون الرفيعة. كما تواجه الفنون اعلام سطحي يعتمد فى مادته الجهنمية على ثلاث وسائل جاذبة منها: تقديم المعلومات فى شكل ترفيهى مسل، للتأثير فى الرأى العام.
ساهم التصوير الفوتوغرافى، في اكتشاف السينما كفن ساحر الآن، عندما قام “ادوارد مايبريدج”، و “جون ايزاكس” بتجربة مثيرة فى لاكتشاف وضع الحصان فى مضمار السباق، ما إذا كان الحصان يرتفع عن الأرض فى انطلاقته، ولا يلامسها، وهو الأمر الذى تطلب استخدام 24 كاميرا تعمل كل واحدة منها على إثر الأخرى فى التقاط صور سباق الخيل أثناء إطلاق الجياد، هذه التجربة تجاوزت نتائجها معرفة خطوات الجياد، الى كشف عن عالم السنيما الساحر. بمجرد وضع الصور الفوتوغرافية بجوار بعض.
وفى واحدة من تجليات وحدة الفنون عبر التاريخ تأتى الفنون الاسلامية التى استطاعت ادماج الفنون الجميلة مع الفنون التطبيقية النفعية، وأصدق مثال علي هذا العمارة التى تراعي ظروف البيئة عند تصميمها، وخاصة الأرابيسك علي نحو يلتقي مع ما نادت مدرسة الباوهاوس والتى أسسها والتر غروبيوس فى فيمار بألمانيا عام 1929 بإعطاء الانسانية وحدة ثقافية جديدة وواسعة، فقد توجهت الى المعماريين والمصورين والنحاتين تطالبهم بالعودة الى المهنة، باعتبار: الفنان هو تسام للحرفى، ولابد لكل فنان من قواعد المهنة، كما نادت الباوهاوس بضرورة رفع جدار الكبرياء بين الفنان والحرفي.
لاشك فى ان المفاهيم الجديدة التى دعت إليها الباوهاوس غيرت وجه الفن، والمنتجات في العالم، على الرغم من ان طموحات أعضاء المدرسة اصطدمت ببطش النازى عندما أغلق المدرسة، فاضطر الفنانون الى الطيران الي الخارج.
تنطوى العملية الإبداعية على كثير من العناصر الشعورية واللا شعورية، فيما يشبه عملية الولادة (التلقيح والحمل والحضانة)، والتطورات البيولوجية التى تطرأ على المرأة أثناء الحمل، دون أن تكون لها يد فى حدوثها، فإن هناك كثيرا من الإحداث الباطنية التى تتحقق فى أعماق نفس الفنان أثناء عملية الإبداع الفنى، دون ان يكون هو على علم واضح بما يحدث فى باطن نفسه، ولعل هذا هو ما عناه “كارل يونج” حين قال: “إن للعملية الإبداعية صبغة أنثوية”.
تشترك الفنون كلها فى الخلق الفنى، بمعنى البناء الذى يتجاوز الواقع الى ما هو خارج الواقع، الى منطقة الخيال والإبداع، والتأثير فى المتلقى، عن طريق الإضافة الى الطبيعة، باعتبار ان الإبداع يبدأ بعد الانتهاء من شروط الحرفة والصنعة.
وكان يقال أن التصوير (الرسم الملون) شعر صامت، والشعر صور ناطقة دون أن يعني ذلك تطابقا، فيما تشترك الفنون ككل فى مشتركات منها الايقاع، التشكيل بمعناه المطلق، وأيضا استهداف قيم إنسانية، من خلال الخلق الفنى والخيال والإبداع، والتأثير فى المتلقى، بالإضافة الى وحدة الأسلوب داخل العمل الفنى، ومع ذلك وحدة الفنون ليست فكرة بقدر ما هى دعوة ورسالة، يمكن ان تخلق تيارا من الوعى بالأهمية الفكرية، لتكامل الرؤى والمنابع التى تتشكل منها مصادر الابداع، وما يعكسه هذا المنحى من تجسيد لفكرة النسق الفكرى الذى تشترك فيه كل الفنون.
وقد يتصور البعض ان الحديث عن وحدة الفنون بهدف إدماجها كلها فى فن واحد، بل الاستفادة من المعارف المتراكمة فى كل فرع عبر مسارات من التفاعل كأن يستفيد فن المسرح من رؤي الفن التشكيلي فى عمل الديكور، والسينما من تنسيق الالوان والملابس في المشاهد.
يبقي أن وحدة الفنون ليست وحدة اندماجية تحت هيمنة خانقة، سواء استدعتها التطورات التكنولوجية أو الربحية. وليست انفصال كامل.