القاهرية
العالم بين يديك

شجرةُ توتٍ

151

كتب/ حمادة توفيق
ههنا أجيء فتحيطُ بي الذكرياتُ من كل حدبٍ وصوبٍ، ويناديني الماضي من مكانٍ سحيقٍ، فتنهمل عينايَ بالدموعِ كأنهنَّ النهرُ الجارفُ، أو كأنهنَّ السحبُ المواطرُ.
ههنا شجرةُ توتٍ على أطرافِ قريتي النائيةِ بالصعيدِ، شجرةُ توتٍ عمرها نيّفَ على العشرينَ عامًا، شجرةٌ شهدتْ على تفاصيلِ حبٍّ لم يُكتبْ له البقاءُ في دنيا البشرِ، حبٍّ دَاستْهُ أقدامُ الدهرِ بأيامهِ وصروفِ لياليهِ، وتعاقبتْ عليه عواصفٌ سواهكٌ فانهارَ، ثم انكسرتْ جذوته ثم خمدتْ ناره ثم سرعانَ ما تلاشى وصار خيالاً كَخَيَالاتِ البشرِ، ثم انتهى كأنْ لم يكن!
ههنا أحلامٌ وأوهامٌ، ههنا آمالٌ وآلامٌ، ههنا أفراحٌ وأتراحٌ، ههنا ابتساماتٌ وجراحٌ، ههنا غيرةٌ حلوةٌ تأبى إلا أن تظهرَ في المواقفِ كالشمسِ فتلعبُ بالقلوبِ لَعِبَ الطفلِ بالدُّميةِ، فإذا الوجعُ مطبقٌ بالقلوبِ، ثم سرعانَ ما تنقشعُ الغُمَّةُ ويبتسمُ الحبُ من جديدٍ.
إيهٍ يا شجرةَ التوتِ! أخبريني أين ذهبَ الحبُّ يا تُرى؟ أين ضاعتْ الأحلامُ الكبارُ؟ أين طفلةُ الماضي الجميلةُ التي كانتْ تشاطرني – تحت ظِلِّكِ الوارفِ – لحظاتِ الفرحِ والوجعِ؟ أين التي كانت تقاسمني أحلامي، وتذهبُ ابتسامتها الرقراقةُ بأحزاني كلها أدراجَ الرياحِ؟
هل تذكرينَ يومَ أن جئنا إليكِ في يومٍ شاتٍ وقد تشابكتْ أيادينا فداهمنا المطرُ؟
يومها وقفتُ تحتكِ وفتحتْ للسماء ذراعيها، ورفعت وجهها الملائكيَّ تستقبلُ قطراتِ المطرِ منتشيةً ضاحكةً، جذلانةً محبورةً.
يومها جعلتُ أنظرُ إليها مسرورًا أديمُ إليها النظرَ، كانت جميلةً مرحةً لم يكن لها في عالمِ البشرِ شبيهٌ ولا مثيلٌ، فلكَ اللهُ يا قلبي البائسُ!
كنتُ إذا افتقدني أهلي بعثوا في أثري أحدَ إخوتي فقصدَ المكانَ ههنا بلا تفكيرٍ، كان الجميعُ يعرفونَ حكايتنا، يحفظونها عن ظهرِ قلبٍ، وكانوا يلوكونَ الحكاياتِ حولنا فياتونَ بالعجائبِ، ويحوكونَ القصصَ كلما رأونا في طريقٍ أو لمحونا ههنا نفترشُ الأرضَ تحتكِ يا شجرةَ التوتِ.
ضاعَ الحبُ يا رفيقةَ الماضي، يا أنيسةَ الوحدةِ وجابرةَ القلبِ الكسيرِ، ضاعَ الحلمُ فخلّفَ في القلبِ شرخًا لا يزالُ رغمَ مَرِّ الأيامِ وكَرِّ الليالي ينزفُ يأسًا ووجعًا.
آهٍ لو توقفَ الزمنُ هناك، هناك يا شجرةَ التوتِ، آهٍ لو ظلتْ الطفولةُ البريئةُ الحلوةُ، لكن هيهاتَ ثم هيهاتَ، مضى العمرُ وفاتَ، ثم جئتكِ اليومَ بعد بلوغِ عامي الخامسِ والثلاثينِ، أجترُّ الحسراتِ والخيباتِ، ولا أملكُ من أحلامِ الطفولةِ غيرَ حفنةِ ذكرياتِ.
فكفكفي الدموعَ يا شجرةَ التوتِ، أوجعتكِ وآلمتكِ فسامحيني، ولا ينشغلْ لكِ بالٌ، فأنا بخيرٍ، أنا بخيرٍ.

قد يعجبك ايضا
تعليقات