القاهرية
العالم بين يديك

في حضرة الحاج حَسَن

137

بقلم/حسن محمد

رغم حاجته الماسّة إلى الراحة، وقف حائِرًا تجاه رغبة عقله الكسول لتأجيل الزيارة للغد وبين اِشتهاء قلبه اللحوح الظمآن إلى جلسة ورفقة روحانية؛ تعوضه عن ما فقده خلال يومه الجامعي الملول. دفعه شيء ثالث على اتباع ما شبَّ عليه منذ صغره، والعودة من حيرته إلى لوم نفسه يسأل: كيف يضنيه الهمُّ عن مبتغاه؟ سكّت عقله، وهزأ به على مدى سذاجته. كان الخوف ثالثهما مُحرِكًا لما يروم. لكن متى عرفه؟ وقتما كَبُر وأدرك المجهول وما يخبئه مِن؛ الموت.. الفقد.. الحنين.. الحسرة.. الوحشة. حقًا إنه يهاب شبح المجهول بقدر ما يحن إلى مشاعر الطفولة وبراءتها دون تكدير العقل صفوه بنفسه.. نعم، الخوف يقتل الحيَّ حيًّا، وهل لنا العيش دونه؟
ثاب من جوف أفكاره إلى برِّ الرشاد. فشرع قاصدا البيت، يذرع الشوارع والأزقة بمشيته المسرعة التي تعكس نفاد صبره.. الشوق تُرجمان الحب، والطبيعةُ حيّةٌ تنساقُ خلف سُلْطة مشاعر المحبين؛ فبينما الأشجار الباسقة على امتداد الطريق تقطر شوقًا، كانت العصافيرُ ترفرفُ وتحفُّ به ترنُّمًا وإعجابًا، وتتناجى بينهم بالمودة والأُلفة كما العُشّاق.

وصل وظل واقفًا خلف الباب، يرنو لصوت ترتيل الشيخ محمد رفعت الآتي من إذاعة القرآن الكريم التي لم تغلق أبدًا.
هو مقبل على مدد روحاني؛ به ستنزاح أحمال ثقال من كاهله، متيقن أنه سيخرج ليس كما دخل؛ شأنه شأن حال المسلم قبل الصلاة وبعدها. همّ بالنقر الهادئ على الباب، مثلما تعود ثلاثا. الباب موصد بالمزلاج كعادته، إلّا ودخل. لكنهما نائمان كما حسب. حيث في الظهيرة تباشر القيلولة هِمتها على الأجفان. عاد يقرع الباب فترامى له منادٍ يقول:
-يا أبو علي، قُم شوف مين بيخبط؟
فجاءه صوت يسأل من الطارق؟ فردّ: أنا ياجدو، فبادر السائل الخُطى وفتح.
-السلام عليكم.
تهللت أسارير الوجهين عن فرحة اللُقى وشوق الغياب. فأمسك حسن الأصغر يد الأكبر فقبّلها، وتعانقا؛ فاهتدت بهما الرُّوحُ من غياهِب التِّيه إلى مستقرها. وعليه التفت المحبُّ يسارًا صوب محبوبته فرِحًا محدّثًا إليها بجملته المنشودة المعهودة:
-قُمي يا حاچة حبيبك جه!
دلف الأصغر من الباب إلى مجلسها، ثم طبع قُبّلةً على يدها، سائلًا:
-إزيك يا تيتا.
بعطف وحُنُوٍّ ربتت على يده، باسمة قائلة:
-إزيك إنت يا خويا.

رجع الأكبر إلى أريكته. فجلس أمامهما يتابع عن كَثَبٍ مشهد الأُلْفة الجاري بين الحفيد وجدته. فضحك وشاركهما الحديث معلقًا خبيرًا بما يمتلك من أساليب الظرافة وروح المداعبة.
همّ الواقف بالجلوس؛ فتنحّى الأكبر ليفسح مكانا بجانبه، فرجع الأصغر وجلس. انشغل الحاج عنهما يستعدّ؛ حيث آخذ يعتلي على رأسه قلنسوته البيضاء بحنكة يضبط موضعها، مع غلق آخر زرار جلبابه. فباشر الصغير بالتكلُّم، لكن سبقه الكبير قائلًا:

-«وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ».

ليس غريبًا لِمَا سمعه حيث أنه دائمًا كان يرددها؛ تحيةً منه وقت اللقاء وسلامًا لحظة الوداع أو جوابًا على كل شكوة تُطرح أو أي همٍّ لا يُنزح. حين يبدأ الحديث؛ ينبع الجوابُ من نبض قلبه الخاشع إلى قلوبنا المتعبة الخافقة، فترنو القلوب قبل العيون، وتصغى الجوارح قبل الآذان. فتنزل السّكينة متبوعة بالطُمأنينة مع صوته الرخيم الأجش يكررها مرة، فالثانية آخذين موضع الإنصات. فما تلبث أن تتحول حالة الاستماع إلى المشاركة حتى يردد الجليس معه بلا ملل ولا كلل للمرة العاشرة. ومع كل حينٍ يختم الآية الكريمة منتحِبًا عند قول الله تعالى: لعلّهم يَرشُدُون.

تظاهر رفيقه بالجهل فضلًا عن المعرفة، بيد أنه يعلم تفسير الآية، لمَا سمعها منه مئات وأُلوف. لكنه يتتوّق دوما إلى سماع كلماته. فما أحلاها موقعًا على قلبه وأحسنها تأثيرًا بنفسه، وعليه بفضول هو أقرب للمكر منه إلى البراءة، آخذ يسائله:

-إيه تفسير الآية يا حاج؟
-لا وسيط بين الله وعبده؛ حتى مع رسوله الحبيب. سبحانه هو أقرب إلينا من حبل الوريد. يابني، فلا تسأل عبدًا بل ربًّا.
-وكيف نزلت؟
صمت بُرْهَة، ثم أردف:
-نزلت حينما سأل أعرابي محمد صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه..
-وما شروط قبول الدعاء؟
-«أجيب دعوة الداع إذا دعان»، «وقال ربكم ادعوني أستجب لكم». فعل الشرط أن تدعوه وجوابه الاستجابة..
-لكني دعوت الله بأشياء كثيرة ولم يتسجب لها!
-يستجاب لأحدكم ما لم يعجل…
-وما سبب التسرُّع؟
-ضعف اليقين وقلة الصبر. عليك أن تدعو الله بيقين وتعلم أن سؤْلك وحاجتك إليه ومنه فقط.
-وما مصير الدعاوي التي لم تُستجب؟
-«ما من عبد مؤمن يدعو الله بدعوة فتذهب، حتى تعجل له في الدنيا أو تدخر له في الآخرة، إذا لم يعجل أو يقنط…»
-وكيف أكون موقِنًا لا قانطًا؟
-قال فليستجيبوا لي؛ أي يتقربوا لي بالطاعة فيما أمرتهم به ونهيتهم عنه. وليؤمنوا بي.. فإن سكن الإيمانُ القلبَ، حلّ اليقين…
-وكم يبلغ اليقين من الإيمان؟
-«الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله.»
-نسأل الله…
-ولعلّهم يرشدون.
-وهل سنهتدي إلى سُبُل الرشاد؟
-لعلّنا، نرجو الله تعالى.

شبع وارتوى، وتمنّى من أعماق قلبه دوام النعمة عليه حيث رفقة دائمة مع جده الحبيب. حمد وشكر؛ ليزيد الله الشاكرين، ويطيل العمر به سنين وسنين. فصمت الحاج مليًّا، صمتا ظاهريا لا تتحرك به شفتاه، ولا تنبس. فعمّ الهدوء، إلا من ابتهال النقشبندي ومحمد عمران في مدح الرسول. أمّا داخله فكان غارقًا في وادٍّ آخر؛ حيث يطوف قلبه بالتوحيد، ولسانه رطيب بالذكر الحكيم. ومع وقع ارتطام الحبة تلو الأخرى بالتسبيح؛ خرجت النفس من غموض الصمت إلى فصيح البيان، فقال:
-«فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ… إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ».

كان صمته ذكرًا.. وحديثه ليس إلا عن الله ورسوله.. وإن خرج عنهما، فيكون نصيب الكلام من ذكر الأحباب الكرام؛ منهم الراحلون، الغائبون والحاضرون. في جلسته لم نعرف الغِيبة.. النّميمة.. الغِبطة. لكن عرفنا معاني الحب.. العطف.. الإيثار.. الخير.. الدِفئ.. الوَرَع.. الزُهد.. والرفقة الحَسُنة في حضرة الحاج حَسَن.

قد يعجبك ايضا
تعليقات