بقلم: رانيا ضيف
يبدو أن منظومة التعليم في مصر قد أصبحت ميدانًا واسعًا للتجارب وحقلاً مفتوحًا لاختبار القرارات، دون أن تحظى برؤية واضحة أو منهجية مستدامة. لا يقدم المسؤولون خططًا طويلة الأمد تتسم بالواقعية، ولا يسعون لتحقيق أهداف محددة ومدروسة. قرارات عديدة تصدر بمعزل عن الواقع، فتبدو إما صعبة التنفيذ أو ذات آثار سلبية على الأداء التعليمي.
السؤال الملح هنا: هل تعرض وزارة التربية والتعليم خططها وأهدافها على لجان متخصصة من الخبراء والمستشارين؟ وهل تفتح حوارًا حقيقيًا مع ممثلي الأهالي الذين يسعون جاهدين لتأمين تعليم جيد لأبنائهم وسط ضغوط الحياة القاسية، المستنزفة لهم ماديا ونفسيا؟!
منذ تولي الوزير الحالي مسؤولية وزارة التربية والتعليم، تتابعت القرارات المثيرة للجدل بشكل صادم، في ظل تجاهل تام لصوت الأهالي واستيائهم المتزايد، وعلى الرغم مما تنقله وسائل الإعلام من انتقادات واسعة. المؤسف أن النمط السائد هو استمرار هذه القرارات إلى أن يغادر الوزير منصبه ليأتي وزير جديد يُلغي ما بدأه سلفه! ويبدأ خطة جديدة من الصفر، دون أن تُبنى أي سياسة تعليمية على أسس متينة تضمن الاستمرارية والتطوير.
والعجيب أن تناقش الوزارة سُبل تطوير التعليم دون أن تسعى لسد العجز المهول في عدد المدرسين! والأعجب أن تقرر تقليل كثافة الفصول في حين وجود عجز شديد في عدد الأبنية التعليمية أو المدارس!
حتى التعليم الدولي لم يسلم من القرارات المتعسفة المدمرة بفرض مادتي اللغة العربية والتاريخ بنسبة ٢٠٪ من المجموع الكلي والتي تنافت مع فكرة الاختيار الحر للطلبة مقابل مئات الآلاف التي يدفعها أولياء الأمور لضمان جودة تعليم عالية وحرية اختيار أبنائهم بما يتناسب مع مخططاتهم ودراستهم الجامعية فيما بعد!
وهذا ليس إلا قطرة من فيض!
حيث كانت أحدث القرارات المدهشة هو تعريب الدراسة بكلية الطب في جامعة الأزهر. معللين ذلك بأن: “هذه العلوم وضعت في الأصل بالعربية وترجمها الغربيون نقلًا عن علماء المسلمين، وآن الأوان أن نستعيد مكانتنا بالعودة إلى هويتنا في تلقي العلوم التي وضعنا نحن المسلمين أسسها، فابن سينا كَتب الطب بالعربية وجمعه في أرجوزة طويلة تبلغ ألف بيت كألفية بن مالك في علم النحو”.
أثار هذا القرار جدلًا واسعًا بين الطلاب وأولياء الأمور والأكاديميين! ورغم أن هذا القرار قد مُرِّر وكأنه يحمل أبعادًا ثقافية ووطنية، إلا أنه يُطرح دون نقاش واسع مع أصحاب الشأن، ودون تقييم جاد لتأثيره على المستوى الأكاديمي والتنافسي للطلاب، خاصة في ظل اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة أساسية للبحث العلمي عالميًا، مما يؤدي لعزل الطلبة علميا أي أن هذا القرار يتجاهل حقيقة أن اللغة الإنجليزية هي لغة الطب العالمية، وأن أغلب المراجع الطبية والأبحاث يتم إنتاجها بهذه اللغة ويتجاهل خطر عزلة الطلاب العلمية، مما يؤدي للحد من قدرتهم على المنافسة عالميًا في مجالات البحث والعمل.
هل فطن المسؤولون أن هناك فجوة مهولة بين بداية العلوم ونشأتها وما يشهده العالم الآن من طفرات علمية تجاوزت فكرة أصل العلوم!
هذه القرارت التي تنتج دون دراسة وافية ودون الاكتراث لأبعادها أو حتى تكلفة تطبيقها وما ينتج عنها، هي صورة ونموذج مصغر لكيفية صنع القرار في المنظومة التعليمية في مصرنا الحبيبة!
وعلى المتضرر انتظار تغيير وزير التعليم الحالي بوزير جديد له رؤى جديدة تهدم ما بناه ما سبقه
وتتوالى التجارب واختبار القرارت مع كل وزير، فالأزمة الكبرى ليست في قرار بعينه، بل في “النظام الدائري” الذي تعيشه منظومة التعليم. الوزير الحالي يهدم قرارات سابقه ويبدأ من الصفر، وهكذا دواليك. لا توجد استراتيجية مستدامة تُبنى عليها السياسات التعليمية، ولا نظام مؤسسي يحافظ على استمرارية الجهود ويضمن أن التغيير الوزاري لا يعني نسف كل ما سبق.
التعليم أساس نهضة الأمم، فهل يعقل أن يظل مجالا لتجارب غير مدروسة؟!