القاهرية
العالم بين يديك

على حافة الهاوية

6

سامح بسيوني

استيقظت من نومي في صباح أول يوم عام ميلادي جديد، وكل استبشار وأمل في غد مشرق، أسرعت إلى موقدي؛ لأصنع لنفسي كوبًا من الشاي، فهذه عادتي منذ الصغر، وأخذت كوبي وجلست في شرفتي أستنشق نسمات عليل الهواء الملئ بالحب والوئام، وهو يداعبني كطفل صغير في أحضان أمه، يالها من لحظات يعيشها الإنسان بين التأمل والتفكر والتدبر في خلق الله!

وفي أثناء تأملي وانغماسي مع الكون، وما به من أسرار خفية لا يعلم مداه إلا الله، لمحت غرابًا ينام على بيض في طمأنينة وأمان، ويخفض جناحيه في رحمة عجيبة على بيضته، خوفًا وحبًا على ما بداخلها، تلك الرحمة التي فقدها الإنسان وتاهت عنه في غيابات الجب والنسيان.

وهاهي لحظات حتى تبدل حال، الغراب فهو يربت على بيضته في حنو، وينقرها برقه فراشة ليس فيها من عنف ولا جفاء، إنها لحظات غريبة شغلت الأم وهي تحاول أن تخرج صغيرها من تلك البيضة بسلام، وكأنها جراح ماهر يجري عمليته بهدوء مع قلق؛ ليخرج المريض بسلام ويعود إليه عافيته بعدما عان مرارة الآلام.

وهاهو الصغير يخرج إلى الحياة، معلنًا الأمل رغم اليأس وقسوة الحياة، لحظات تمر ببطء كسحلفاة تسير في وسط الصحراء، وعقارب الوقت توقفت لحظات عند الأم ومعها القلب سقط؛ خوفا في الحال، ولم تهدأ المسكينة من توترها حتى اطمئنت على وليدها وهي تنظر إليه بتعجب واستغراب.

لحظات تعجب أصيبت الأم بعد خروج الصغير من بيضته في الحال، الأم تنادي على الأب، وتنكر عليه بأن الصغير ليس من فصيلتهم، فنحن الغربان سود كالليل بهيم في ليلة غاب فيها القمر وتوارى خلف الحجاب.

والأب ينظر إلى الوليد بعبرة وهمام، وعطف الأبوة يراوده كزليخة حين راودت يوسف عن نفسها، ولكنه الشك والارتياب كيف لهذا الوليد أن يأتي على غير فصيلتتنا فنحن السود وهو الأبيض كشمس في كبد السماء؟!

يالها من لحظات عصيبة تمر على الأبوين الرحمين، وعندهم من اضطراب كموج كالجبال! ماذا سنصنع في هذا الوليد؟ هل سنتركه في الحال وتكون هي نهايته المحتومة بلا شك أو ريب أو خسران.

وهاهي لحظات من الشد والجذب بين الأبوين، وأخذا القرار الأصعب في الحياة؛ بأن يتركوا وليدهم فهو لقيط ليس من فصيلة الغربان واستنكروه كنكران إخوة يوسف حينما وجدوه هو الأمين على خزائن الأرض وهو عزيز في الأرض أعزه عزيز الكون والأرزاق

ياله من مسكين هذا الوليد! ليس عنده من القوة أن يطعم نفسه أو يسقيها، فهو ضعيف الحال مكسور الجناح تخلت عنه الرحمة، وتركته يصارع الحياة، ويقاوم الموت بغير حسام.

ولكن الرحمن الأعلى، كان له بالمرصاد، فسخر له جنود في الحال، (ولا يعلم جنود ربك إلا هو) فجعل في فمه رائحة عجيبة تجذب الديدان إليه، فخرجت من تربتها تبحث عن تلك الرائحة العجيبة، وكأنها تحلم بفريسة تقوي بها على الأيام، وهي المسكينة لا تعلم بأنها ذهبت بنفسها إلى حافةالهوية كمن يسير على سيف دقيق يشبه الصراط في يوم الحق والبرهان.

لحظات قليلة والديدان، تخرج من تربتها، وتذهب إلى هدفها حيث تلك الرائحة التي تخرج من فم الصغير (النعاب)، فيلتئم الصغير تلك الديدان في فمه، فيقوي عليها في الحال، ويشتد عوده، والأم مازالت تراقبه في لهفة واشتياق، وقلبها فارغ كأم موسى على وليدها حين وضعته في يم خضم بلا قبطان، وأجترفه التيار إلى طريق مجهول الهوية مليء بالفرائس والأشواك.

وعقارب الوقت تمر ببطء على الأم، وهي مشتت الفكر والبال، هل هذا هو وليدي وفلذة قلبي؟ أم ماذا يا الهي الكون وعالم الأسرار؟ أرشدني إلى أمري، فأنا كفاقد راحلته في أرض فلاة.

 

دقائق وساعات مرت على الأم كيوم نحس على أمم قد خلت من قبل تمادوا في الطغيان والعناد، فتبدل شكل الوليد من البياض إلى السواد، بعدما تقوى على الديدان، وازداد سواده فاطمأنت الام على أنه فلذة قلبها في الحال، ونادت على زوجها، لتبشره كملائكة الرحمن حينما بشروا سارة بإسحاق في الحال، وأقبلوا زمرا على صغيرهم وكأنهم إلى جنة الفردوس يزفون ورضوان حامل مفاتيح الجنان، يستبشرهم بالعفو والرضوان.

وتبدل حال الرحمين من حزن إلى غبطة وحنان، والأم تطعم بمنفارها في حنو وأمان، والأب ازداد يقينا بأن الرازق هو الله.

وعندئذ أطلقت بصري إلى العنان ؛ لأفكر لماذا انشغل الإنسان برزقه وحمل نفسه مالا طاقة له به في الحال؟! ونسى بجهله وطغيانه بأن الرزاق هو الله، أيها الخائف من فوات رزقك كن مطئنًا، فالذي رزق النعاب قادر على رزقك في الحال، فليس عليك الا السعي بجد وترك التكاسل والإحباط وتمثل بأمره وثق بأن الرزق كله بيد الله واعلم بأن جميع الدواب رزقها على الله(( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها كل في كتاب مبين) فأطمئن ايها الانسان، ونم مستريحًا؛ لأن الرازق هو الله.

قد يعجبك ايضا
تعليقات