القاهرية
العالم بين يديك

شعر حافظ إبراهيم ( معالمه وقوته)

114

 

كتبت/ سالي جابر

لقد درس شعره كثيرين وأطراه بعضهم إطراءً لا حد له حتى جعله أعظم شعراء العصر الحديث، وغلا البعض في ذلك فاعتبروه أعظم شعراء العربية على الإطلاق، وهاجمه البعض هجومًا منكرًا يشوبه الحقد والإضغان وحمل لواء هذه الحملة أمثال إبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري وعباس العقاد – رحمهم الله-.
وكان المازني عنيفًا على حافظ في غير هوادة، كان يراه رجلًا جنى على الشعر والأدب فقال :” لو كان للأدب حكومة تنتصف له من المسيء وتكافيء المحسن لكان أقل جزاء حافظ على ما ارتكب من الشعر، عليه أن يبتاع ما اشتراه الناس من كتبه ثم يحرقها بيده لأن شعره جناية على الأدب، وأنت تعلم أن من الشعر ما هو آثم ومنه ما هو بريء صالح أما الآثم فهو الذي يفسد الذوق ويُعوّد الناس الكذب ويضلل الناس، وشعر حافظ من هذا النوع” .
وقد نشر المازني بضع مقالات في صحيفة عكاظ كانت كلها حملة قاسية على شعر حافظ ثم جمعها في كتيب صغير سماه ” شعر حافظ ” لكن لم يلقَ شيئًا من الرواج بين القراء، وذلك لأن الحملة كانت ظالمة قائمة على التجني والبخس، على أن المازني نفسه بعد أكثر من عشرين عامًا نراه يندم على ما فرط منه، ووصف حملته بأنها كانت خبالًا وسفهًا فيقول:” ولقد افتتحت سيرتي في الكتابة بأن فقدت حافظ- رحمه الله- في سلسلة مقالات كنت أعتز بها وأعتدها شيئًا ثمينًا فجمعتها و نشرتها في كتاب بيع من نسخه القليل وتكدس أكثرها عندي فبعته لبقال رومي ليلف في وريقاته ما شاء من جبن وزيتون، أو يفعل بها ما هو شر من ذلك، وقلت وقد خلصت أنفاسي واستراح قلبي، فما يستحق مثل هذا النقد إلا هذا المصير “.

فإذا أراد حافظ أن يعبر عن مشاعره في صدق وحرارة أتى بالقول مصقولًا، كثير الإيماض، نقي المستشف، وأحيانًا كان يخضع لعقله الواعي ويشعره بمنزلته من الشعب فينظم متهاتفًا خاليّا من صدق الإحساس إرضاءً للجماهير ليس غير، وكان حافظ يفتش عن اللفظ المناسب الموضوع ويؤائم بين موسيقى الطول والقصر وبين المعاني والأغراض وكان يعيد النظر في شعره، ويبدل لفظة بأخرى ويقدم ويؤخر بغية توفير الجمال لفنه وكان يسمي هذه العملية ” بالتذوق” وكان كما يحكي عنه أصدقاؤه” يصنع البيت فيردده على أذنه بإنشاده اللطيف حتى يتبين موقعه من أذنه قبل أن يوقعه على آذان الناس، ويتذوق موسيقاه قبل أن يتذوقها الناس”.
وذكر الأستاذ داوود بركات في مجلة أبولو 1933 ص 1336 :” كان حافظ كثير العناية بشعره ونثره يصقله ثم يصقله حتى يصير صورة صادقة لما يريد تصويره تغنى به وردده، فإذا أطرب وغدا طرب هو لتلاوته عرضه على نخبة من الأدباء الذين يختارهم لنقده، فلا يستكبر ولا يعاند، فإذا اعتقد بأن الصواب ما قاله لا يعز عليه هدم ما بنى وكتب سواه” .
ويقول الأستاذ أحمد الزيات أن حافظ لديه ثقافة سطحية وقلة تعمق للمسائل وعدم إطلاع على ثقافات الأمم الأخرى، فجاء شعره ضحلًا لا عمق فيه، ومن أجل هذا كانت السطحية أبين خصائص شعره.
ويقول الأستاذ عزيز أباظة :” كان شعره يقصر عن التحليق في سماوات الخلق الواسعة المدى كما يفعل شوقي مثلًا، ولكنه يستعيض عن ذلك بسهولة شعبية محببة أكتسبها الشاعر من طول اندماجه في طوائف الشعب المختلفة، ونشرت روحه من تلك الأرواح الخالصة المصرية فقال في قصيدته:
الشـعـب يدعـو الـلَّـه يـازغـلـول
أن يسـتـقـل على يـديك الـنيـل
إن الـذي انـدس الأثـيم لـقـتلـه
قـد كـان يـحـرسـه لـنـا جـبريـل
أيمـوت “سعد” قبل أن يحيا به
خـصـب على أبناء مصر جلـيـل
يا سـعـد، إنك أنت أعـظم عـدة
ذخـرت لنا نسـطـو بهـا ونصـول.

والقصيدة من هذا الوزن الذي يمتاز بالطلاوة ونصاعة الديباجة وجزالة العبارة ليس غير، وليس فيها معنى عميق يروعك أو صورة جميلة تبهرك .
ومن أبرز خصائص حافظ الشاعر أنه كان كليفًا بتقليد القدماء، فهو تلميذ صريح للبارودي، وكان البارودي في ثقافته لا يتجاوز أدب الأقدمين ولا يكاد يتعمقه؛ فنرى حافظ يبالغ ويسرف في المبالغة على طريقة القدماء من غير أن يمحص أو يحقق ويعتقد عبد الحميد سند الجندي أن طبيعة حافظ نفسه قد أذكت روح هذه المبالغة، لأنه كان رجلًا بسيطًا في خلقه، يسرف في الحب، يسرف في الرضا، يسرف في السخط، يسرف في الحزن، ويسرف في الإخلاص؛ فهو يستدر الدمع الدرار على الفقيد، ويخيل إليه أن هذه الدموع تحمل نعشها إلى قبره. وأن أنفاس الناس تدفعه فيقول:
مشى نـعـشـه يـختـال عجـبًـا بربـه
و يـخـطـر بين الـلـمـس والـقــبـلات
تــكـاد الـدمـوع الـجـاريـات نـقـلـه
وتــدفـعـه الأنـفـاس مـسـتـعــرات

وفي قصيدته عن قبر الزعيم مصطفى كامل قال:
أيـا قــبـر هـذا الـزعــيـم أمـــال أمـــة
فـكـبـر وهـلـل وألـقـي ضـيـفـك جـانـبًـا.

ويذكر د. طه حسين أنه سأل حافظ ذات مرة كيف يتصور قبر مصطفى؟ فقال: دعني من نقدك وتحليك، ولكن حدثتي أليس يحسن وقع هذا البيت في أذنك، أليس يثير في نفسك الحزن ؟ أليس يصور ما لمصطفى من جلال ؟ فقال الدكتور: بلى ولكن… فقال حافظ: دعني من ( ولكن ) واكتفى بمثل هذا، وقد أشار شوقي لحافظ في إيثاره القديم:

يـا حـافـظ الفـصـحـى وحـارس مـجـدها
وإمــام مــن نَـجــلــت مـــن الــبـلـغــاء
مــا زلـت تـهـتـف بـالــقـديـم وفـضـلـه
حـتـى حــمـيــت أمــانــة الــقــدمــاء.

وكان حافظ شديد التعمل. أنهك ذهنه في تقليد القدماء، وقد جنى عليه هذا التقليد إلى حد ما، وهو الذي يقول في مقدمة ديوانه: ” خير الشعر ما جاء عن غير كد ولا تحابى طريق التكلف والتعسف “.
فشعر حافظ في معظمه كان تقليدًا لا يعني إلا بالتقرير التام، ولكنه قريبًا إلى النفوس، كما يقول الأستاذ أحمد محفوظ : ” جاذبية غير واضحة ولا مفهومة يحسها القلب وينكرها الذوق الفني “.
ويقول بعض الأدباء إن وظيفته في دار الكتب كانت نعمة على جيب حافظ ونقمة على فنه؛ لإنه اضطر إلى المداراة وأصبح لا ينظم الشعر إلا في مواقف ملحة.

• الوصف والخيال في شعر حافظ:

لقد عجز حافظ عن أن يقف أمام مشاهد الطبيعة وقفة التأمل، والطبيعة ما زالت منذ القدم وحي الشاعر، فقال في قصيدته في وصف الشمس:

قد يعجبك ايضا
تعليقات