بقلم / سالي جابر
في خضم الحياة والذكريات الهائلة التي ترددت على رأسي في وقت بسيط، كنت أرقب بنادول الساعة كي يمر الوقت الذي حددته لنفسي وأنا في شموخ لأنني كسبت التحدي، لقد كان تحديًا مع الذات التي دائمًا تبكي في الزاوية مع جلد ودفع تجاه التيار لتسقط في شلالات الحيرة وفقدان الأمل، اليوم أنا هنا لأتحدث عن نفسي بكل الذكريات السيئة التي أُغمدت في قلبي وأدمته في يومٍ ما، سأقص أمام الجميع طفولتي التي يراها الكل هادئة بينما هي حرائق مشتعلة مياه الحب التي تزخره تباعًا لم تكن يومًا كافية، فقد كانت مشروطة بأحكامٍ وقوانين بالية.
بعد مرور خمس وعشرين عامًا وقفت أتحدث عن أبي الذي كان حنونًا معي دائمًا طالما لم يعانِ ضغوطات في العمل أو البيت، وتلك أيام قلائل كان يتحدث عن الحكمة وراء الأشياء، والدوافع والرغبات والإمكانيات، يبتسم في وجوهنا، يتحدث عما نفعل سواء كان صوابًا أو خطاءً، يحاول مرارًا وتكرارًا الاهتمام بالعَرَض وليس المرض، يجذب الانتباه عندما نتقدم، ويسحب سجادة الحب والتقدير من تحت أرجلنا حينما نخطئ، يحمسنا للوقوف بين التلاميذ في طابور الصباح للإذاعة المدرسية بينما لا يعلمنا ماذا نقول وكيف ننطق…، يراني حزينة يحاول أن يدفعني للمضي قدمًا بينما لا يحاول معرفة سبب حزني، كان حكيمًا لكنه لم يتقن الحكمة تمام الإتقان حتى تتراقص الحروف بين يديه وهو يبحث عن كلمات المديح، وكأنها لم تكن تابعة من القلب بل دفعها المخ رغمًا عنه ليرفع راية الفخر بأن من اجتازت المصاعب كانت ابنته .
مثله ككثير من الآباء يتخيلون أنهم يسيرون على الصراط المستقيم في التربية لكنهم يهملون أن التربية تحتاج ماهو أعمق وأبسط، إنها السهل الممتنع، البساطة مغلفة الحَزَن بإتقان.
أتذكر حينما مدحني لأنني ساعدت أمي في حمل الأطباق إلى غرفة الطبخ بعد وجبة الغداء؛ فقررت نتيجة لذلك أن أساعدهما دائمًا فذهبت إلى غرفتهما وبدأت بترتيبها لكن ولسوء حظي أضاع أبي بعض أوراقه فاتهمني بها، وسلط عليَّ سوط لسانه فكان يقطع قلبي ويمزق روحي دون أدنى معرفة مني بما حدث، فوقفت في ذهول أتساءل ماذا جرى؟! عن أي أوراق يتحدث، وعن أن مدح أنتظر!
يالها من قصة مغضبة مضحكة! طفلة في عمر السبع سنوات تقف عاجزة عن الفهم تغمرها الاتهامات ويتساقط عنها رداء الحب، فتتعرى نفسها وتبحث عن بديل، ذهبت إلى المدرسة صباحًا طفلة جميلة ذات الضفائر الجزلة المنسوجة من خيوط الشمس أترقب أتوبيس المدرسة وأبي بجانبي يسلمني ليد المشرفة دون وداع أو قبلة الصباح؛ عقابًا على فعلتي – هكذا أبي يري- كنت مغيبة عن الدرس يبدو على ملامحي الجزع، يديا في الأصفاد لأنها خذلت أبي- كما وصلني منه- متعبة حتى وصلت تلك الشكوى لأبي، وجاء الاتهام الثاني الذي محواه أنني لم أنم الوقت الكافي ولهذا جاءت الشكوى، رغم صغر سني إلا أن الألم لم يعرف العمر، الألم النفسي يعترى الجميع ويسكب داخل جراحه ملحًا.
جرت الأيام و تخرجت في الجامعة وبدأت سوق العمل بخوفٍ شديد، شخصية مهزوزة أتأثر بكلمة، وأنتظر الحب من الجميع، تؤرقني كلمة سيئة تغير حالتي المزاجية أيام؛ فأعتزل الجميع وأبكي في نفس الزاوية لكن دون أن يشعر بي أحد، أبحث عن الحب في كل العيون، أُراضي الجميع حتى لا أخسرهم، لم تعجبني تلك الشخصية فطلبت المساعدة من أهل العلم، فعلمت برغم صغر الأمر بعظم مأساته، سوف أكون زوجة خانعة، أم ظالمة تنظر لنفسها فقط ممن هم أضعف منها، أغضب عليهم لأقلل الأسباب، أعتزل البيت وأنا فيه وأهرب من ساكنيه.
وبعد فترة من التحرر من ذاك الماضي وجدت نفسي واحتضنتها وأهديت لها باقة ورود على كل ورقة كلمات اعتذار حانية، جمل تزيد الدافعية تجاه الحياة لشكل المرأة التي أنتظر زيارتها لنفسي. وها أنا تلك التي آملها بعد اجتياز التحدي.