زينب مرعي
اليوم أيضًا رأيتها. كان النهر يهدهد جسدها ببطء ويأخذه إلى حيث لا نعلم. إلى حيث لن نجدها بعد اليوم. كان وجهها مقلوبًا إلى الأسفل وعيناها مفتوحتين على وسعهما. ماذا ترى في الأسفل يا ترى؟ لا أعرف. أنا لم ألمس ماء النهر يومًا حتى أعرف. أخافه وأخاف السباحة. لكن هي. هي كانت سبّاحة ماهرة. ومع ذلك، رأيتها الليلة مجدّدًا، تطفو بهدوء على سطح الماء، وشعرها الأسود الداكن ينطلق من فروة رأسها لينتشر في النهر، كأنّه أذرع أخطبوط طويلة. أخطبوط أسود بلون الليل.
كلّ شيء كان هادئًا حولنا هذه المرة. هادئًا إلى درجة أنّ أصوات دعسات قدميّ وأنفاسي المتسارعة أصبح لها صدًى مرعبٌ. كلّ خطوة على حافة النهر وكلّ نفس يجد له صدًى مدويًا في رأسي. لا زقزقات عصافير، لا حفيف أشجار، حتى خرير الماء تراجع خلف صوت أنفاسي. أراه فقط يتابع جريانه ويسحبها معه ببطء، بينما أنا أمشي إلى جانبها. هي تنزلق وأنا أمشي. تنزلق وأمشي. أحاول أن أتبعها، أن أبقى في محاذاتها. لم أرها يومًا بهذا الضعف أو على هذا القدر من السكون. لا يمكن أن تكون قد ماتت! رحلت بالبساطة التي يجري فيها الماء. أرفع غصن شجرة عن الأرض. أمدّه ناحيتها وأنكزها به. لا تصدر منها أيّ حركة. أنكزها مرّة أخرى فيتحرّر فجأة، من فروة رأسها، ذاك الأخطبوط الأسود ليقترب مسرعًا ناحية وجهي. يصبح قريبًا جدًا منه، يستعد للإلتصاق به حين أستيقظ مذعورة.
تذكّرت منامي من الليلة السابقة، وأنا أقف أمام صفّ طويل من الأزهار والنباتات. لا أدري كيف دهمتني رؤياي وحاصرتني هناك. اقتربت أمدّ يدي لأتفحّص إحدى النباتات، فعادت لتخرج أمامي، من بيت بتلاتها الطويلة، خصلات شعرها الأسود. شعرت حينذاك بدوار خفيف فاتكأت على الرفّ أمامي وأغمضت عينيّ. لا أعرف كم مضى من الوقت، وأنا على هذه الحال، قبل أن تعيدني إلى الحياة يد إحدى الموظفات في المحلّ، لمست ظهري بخفّة، وهي تسألني عمّا إذا كنت بخير. نظرت إليها بتعب وتمتمت أنّني كذلك. ثمّ سألتني عمّا إذا كنت بحاجة إلى كوب ماء، فأجبتها بحركة نفي سريعة من رأسي وابتسامة وددت لو تنفي صفة المرض عنّي.
نطرت حولي، فبدا كلّ شيء ضبابيًا. لم أعد أعرف لِما دخلت هذا المكان أصلًا. محلّ أزهار كبير وأنيق تنير أضواء النيون اسمه. كنت قد مررت قربه مرّات عدّة قبلًا من دون أن أفكّر يومًا في دخوله.
ابتعدت عن الرفّ، وأردت فقط مغادرة المكان. لم أدرك أنّ جميع العاملين في المحلّ
كانوا قد لاحظوا أنني لست على ما يرام. وأنا أتّجه نحو الباب، سمعتهم يسألون العاملة التي اقتربت مني: ”لماذا لم تحضري لها كوبًا من الماء؟“، فاعترضت هي: ”عرضت عليها ذلك لكنها رفضت!“. ربما كان عليّ أن أبقى في المنزل اليوم، فكّرت وأنا أمشي مبتعدة عن محلّ الأزهار. كانت حقًا فكرة سيئة. أين أذهب الآن؟ لا أعرف.
لم أشترِ نبتة ولم أذهب للقاء بنيامين. أنا، على كلّ حال، لا أعرف أيّ شيء عن النباتات والأزهار، لا أنواعها أو أسمائها أو كيفية الإعتناء بها. أنا لا أحبّها حتى! لا أعرف كيف وجدت نفسي أخطو خطواتي الثقيلة اليوم، داخل ذلك المحلّ. وبنيامين؟ أعتقد أنني سأؤجّل تلك الزيارة. لكنني لم أتّصل به حتى لأعلمه أنني سأزوره. هو لا يتوقع زيارتي المفترضة، وأنا ما زلت لا أعرف ما سأقوله له. فما نفع الذهاب إليه والوقوف أمامه، صامتة كالبلهاء. سيكرهني أكثر إن ذهبت إليه ولم أجد شيئًا أقوله. سيزداد غضبه وحنقه عليّ، إن لم أعتذر على الأقل. وقفت حائرة قليلًا على الرصيف. ماذا أفعل؟ الطقس بارد لكنه ليس ماطرًا. لا بأس في ذلك، معطفي الخمري سميك. لا يزعجني البرد طالما أنّ الثلج لا يتساقط. يمكنني أن أتمشّى قليلًا. أنظر إلى هاتفي، إنها الحادية عشرة صباحًا. أسير قليلًا من دون هدف وأنا أفكّر. سيّارتي ما زالت مركونة في باركينغ المبنى الذي أسكنه. فوق المربّع الأبيض الذي يحمل الرقم ٣٥. رقم شقّتنا أنا وبنيامين (أو على الأقلّ شقّتنا معًا حتى يوم الإثنين الماضي). فضّلت ألّا أقود بنفسي اليوم. الآن عليّ أن أركب سيارة أجرة، أو أن أسير إلى محطة المترو إذا أردتُ الذهاب إلى أيّ مكان. هل أذهب للتنزّه قليلًا في بارك ”جمشيدية“ على كتف الجبل؟ في هذا البرد؟ ربّما يكون ”الكافيه“ أفضل اليوم. الرحلة ستسهلك نصف نهاري على الأرجح في ازدحام طهران، الأمر الذي كان يجب أن يسعدني بما أنّه كان سيلهيني عن وحدتي وعن الكآبة التي أعيشها، لولا أنّ مجرّد التفكير في كلّ ذلك الازدحام يرهقني اليوم كأنني أنا من يجلس خلف مقود السيارة! ربّما من الأفضل أن أنسى كلّ ذلك وأعود إلى المنزل وحسب.
أمام المغسلة، في صالة الاستحمام، النظر في المرآة وحده يكشف لي حجم تعبي. هالات سودٌ حول عينيّ، لوني شاحب ومظهري غير مرتّب، مع أنني أذكر أنّني حاولت جاهدة أن أبدو بمظهر لائق قبل أن أخرج من المنزل هذا الصباح.يبدو واضحًا أنني لم أنجح! مساكين. لا بدّ أنني أخفتهم في محلّ الزهور. لا بدّ من أنني وقفت أحدّق طويلًا في رفّ النباتات قبل أن أشعر بالدوار. أعرف نفسي، عندما أكون متعبة يمكنني أن أنسى نفسي وأنا أحدّق طويلًا في شيء واحد ولا أراه. هكذا كأنني تجمّدت في الزمن. لا أدري كم راقبوني وأنا على هذه الحال. لا أعرف كم من الوقت لبثت هناك.لا بدّ أنني أثرت ريبتهم حتى لفتُّ انتباههم جميعًا. كان عليّ فعلًا أن أبقى في المنزل اليوم، أو أن أختار على الأقلّ محلا أصغر، محلًا للمبتدئين مثلي. كشك صغير، ليس فيه سوى صاحبه وزبونة وحيدة هي أنا. أختار منه أول نبتة تقع عليها عيني، فيخبرني صاحب الكشك كيف أعتني بها، وأغادر. وهكذا، بهذه البساطة، ينتهي الموضوع. أنا أضيع في الأماكن الكبيرة. في الأماكن التي ينشغل فيها الموظّفون بأناس كثر فلا أعود أشعر بثقل أعينهم تراقبني. أنا ممّن يحتاجون إلى تلك الأعين عليهم. أحتاج إليها لأشعر بضرورة الحفاظ على تركيزي واتزاني، لأبدو أنّني منهم، امرأة أخرى فقط بينهم. عندما تغيب نظرات الغير عنّي، أفقد القدرة على مراقبة ذاتي فتجد أشباحي فرصتها للهجوم. تخرج من خلف الأغراض، من بين الثقوب الصغيرة، من العدم، من الظلام وبقع الضوء على حدّ سواء. هذه المرّة مدّت أذرعها من هناك، من خلف كلّ تلك النباتات المتلاصقة والمصفوفة على الرفوف. كلّ تلك البقع المظلمة، الفجوات بين الحائط والنباتات، كلّها أماكن مناسبة تمامًا لتختفي خلفها كما لتخرج منها. أنا من أوقع نفسي في فخّها هذه المرّة. هل كان عليّ أن أحيط نفسي بكلّ تلك الغابة؟ بكلّ تلك البقع المظلمة؟ لم أكن ذكيّة كفاية هذه المرّة لأتجنّبها .
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية