كتبت- سارة محمد صالح
أحيانًا كثيرة تأتي أقدارك بما لا تشتهي ولا تريد وقتها؛ تشعر بالضيق.. والتَّضجُّر.. والاحتدام.. والجَزَع.. والتَّضرُّم (إلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي) فتتملَّك منك مشاعر الإحباط، واليأس، والتثبيط، وعدم القدرة على مواصلة أعمالك بشكلٍ جيد؛ فتلقائيًا يتغير سلوكك مع الزَّوجة، والأولاد، والأهل؛ فتصبح منبوذًا ومذمومًا ممَّن حولك وللأسف كل هذا يجعلك بالتأكيد كارهًا لنفسك ولوضعك فتصبح الحياة وكأنها كابوس! وتجد نفسك في دائرةٍ مغلقة ضيقة تفعل أشياء لم تتقبلها إطلاقًا ومع ذلك تفعلها لكي تسير حياتك وحياة من حولك فحياتك مؤكدًا ليست خاصة بك وحدك بل مرتبطة بحياة أشخاص آخرين فلا بد من المواصلة، فغيِّر مسار أفكارك التي تنغص عليك حياتك وتُشعِرك بعدم الرضا والسخط دائمًا فإن لم تستطع؛ اذهب لحالة مشابهة لك “حالة” تكاتفت عليها الهموم والأوجاع وأعرض عليها تغيير مسار أفكارها فربما يجعلك الله سببًا في قلب حياة شخصٍ آخر من الحزن إلى السعادة بنسبة ١٨٠ درجة وتحقق له ما لم تستطع أنت تحقيقهُ لنفسك! وكيف يكون ذلك؟! يوجد حديث جميل عن أَبي ذرٍّ رضيَ الله عنهُ قَالَ: قَالَ لي رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: (لا تَحقِرَنَّ مِنَ المَعْرُوف شَيْئًا، وَلَو أن تَلقَى أخَاكَ بوجهٍ طليقٍ) رواهُ مسلم. فربَّما فعل الخير الذي تفعلهُ مع غيرك يكون سببًا في نجاتك من أحزانك وتتغير حياتك إلى السرور والنعيم وتقلب موازينك تمامًا… وإليكم قصة من وحي خيالي لأعبر بها عن وجهة نظري – آسر شاب مجتهد جدًا طالب بكلية الطب كان لديهِ طموح بأن يصبح طبيب (قلب) ولكن شاء القدر أن يكون مجموع درجات تخرجه أقل من مستوى تخصص القلب فاضطر على حسب مجموعه وليس على حسب رغبتهُ بأن يتخصص في -طب الجراحة العامة- ومع ذلك لم ييأس وقرر المثابرة وحصل على الماجستير ثم الدكتوراة، وبفضل الله أولًا ثم بحكم أنه كانت أموره المادية ميسورة؛ أكرمهُ الله وفتح عيادة للجراحة العامة كل هذا تم بعد رحلة عناء طويلة، وشاقة، وجهدٍ واسع من آسر لكنهُ ما زالَ أيضًا كارهًا لتخصصه، حتى بعد النعم الكثيرة التي حصل عليها! فغيرهُ من الأطباء ما زالَ لم يستطع فتح عيادة ولم يحصل على الدُّكتوراه مثله! وأتمَّ الله عزَّ وجل نِعَمَهُ على آسر بزواجه من زوجةٍ صالحة بل وأكرمه بطفلين توأم في أول سنة من الزواج، وكل هذه النعم يفتقدها الكثيرون ويتمنَّوها بل وقد تكون نعمة واحدة عند آسر هى أقصى أحلام زملائهُ من الأطباء الذين ما زالوا لم يحصلوا على الدكتوراه، وليس لديهم أي دخلٍ آخر! ومع كل هذه النعم إلا أن آسر ما زال في نفسهِ شيءٌ ينغص عليه حياته وهو: افتقاده لتحقيق حلمه بالحصول على لقب “دكتور أمراض قلب” والعمل بهذا التخصص فكان دائمًا يملأ قلبه الهم والحزن، ومع ذلك كان آسر رحيمٌ ليِّن القلب جدًا في التعامل مع المرضى وكثير المزاح معهم حتى أحبوه، وكان يظهر أمامهم “وأمام” الناس بصورة الطبيب الثَّغِر السعيد لكن هذه السعادة معكاسة تمامًا لِمَا يشعر به في قلبه! وفي يوم من الأيام رن هاتف دكتور آسر الساعة الواحدة ليلًا من إحدى المستشفيات الخاصة لطلب حضوره في مساعدة عاجلة؛ لإنقاذ يد مبتور في حادث مرورى لشاب يُدعى: مهند وإعادة زرعها مرة أخرى فذهب دكتور آسر مهرولًا بحكم أن الأمر لا يستعدي أي تأخير، وفور وصوله للمستشفى بدأ بتعقيم نفسه ومباشرة العمل مع طاقم طبي متميز من أكبر الجراحين؛ لإنقاذ يد الشاب وبعد ثمانِ ساعات من العمل الشاق قدَّر الله أن لا يتم زرع اليد مرة أخرى؛ بسبب تهتُّك شديد في الأنسجة فعادَ دكتور آسر حزينًا إلى بيتهِ والدموع تسيل من عينيهِ وتنهمر متأثرًا جدًا لِمَا حدث لمهند، وأيضًا بعد رؤيته لحزن أهله بل والصراخ من قِبَل أحد الأقارب من الدرجة الأولى… وبعد خمسة أيام قرر دكتور آسر الذهاب إلى مهند مع أن مهمته قد انتهت أساسًا لأنه لا يعمل في هذه المستشفى وحضر عملية مهند تطوعًا منه وبناءً على طلب أحد الزملاء له ولكنه أراد أن يجبر بخاطر مهند ويطمئن عليه بنفسه، وفور وصوله إلى غرفة مهند ألقى السلام ثم جلس بجانبه وقال: حبيبي مهند أنا كنت من ضمن الأطباء المساعدين في عملية إنقاذ يدك، تأكد أننا بذلنا قصارى جهدنا لإعادة اليد إليك مرة أخرى ولكن شاء الله أن يعظِّم أجرك ويبتليك لأنه يحبك ويرضى عنك ومن أحبه الله ابتلاه فاصبر لحكم ربك، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وقال النبي صلّ الله عليه وسلم: (من يُرِدِ اللَّهُ بِه خيرًا يُصِبْ مِنهُ). وأخيرًا أنت تُريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد، وهناك ما يُعرف بالطرف الاصطناعي سيُساعدك كثيرًا على تقبل وضعك فلا تحزن أرجوك.. مهند, مهند, مهند!لم لا ترد يا مهند؟! مهند آسف أعلم أنه كان لابد أن لا أطول عندك هكذا في الزيارة، أشعر أنني أتعبتك عذرًا سأذهب الآن لكي أتركك تأخذ قسطًا من الراحة أستودعك الله، فخرجت شريد الذهن حزينًا على حزن مهند فسألت عنه أحد الأطباء المتابعون لحالته وقلت: هل تحدث مهند مع أحدٍ بعد العملية فقال: لا.. لم يتحدث مع أحدٍ قط ولا حتى مع أقاربه، فأتينا لهُ بطبيب للدعم النفسي وأبلغنا بأن مهند يعاني من صدمةٍ نفسية أفقدته النطق وهى ليست دائمة فربما يرجع إليه النطق مرة ثانية إن تحسنت نفسيته. فقلت: حسنًا الله المستعان. وأثناء عودتي إلى العيادة وأنا في السيارة جاءت في رأسي فكرة وهى: “كيف أغير مسار تفكير مهند من اليأس والحزن إلى الفرح والسعادة” والأهم أن يعود مهند للتحدث ولكنِّي كيف سأفعل ذلك وأنا لست مدربًا جيدًا على مثل هذه الأمور؟! فالأمر ليس بهيِّن بأن تقنع أحدهم بالمنطق وتُمزِجهُ بالمشاعر! فمعروف أن المنطق غالبًا ما يتخذ طريقًا دون طريق المشاعر؛ فشعرت باليأس قليلًا ثم قلت الله المستعان. وبعد انتهائي من جميع الكشوفات أمسكت بهاتفي؛ لأبحث في جوجل عن أناسٍ عاشوا حياتهم بشكلٍ طبيعي بعد فقد جزءًا من أطرافهم فوجدت ڤيديو بعنوان: (من رضيَ فلهُ الرضا ومن سَخِط فلهُ السَخَط) وكانَ لشابٍ عمرهُ تقريبًا ثلاثونَ عامًا ويرتدي طرفًا اصطناعيًا يقف أمام بحيرة صغيرة وتارَّة يُنزِل الطرف الاصطناعي في الماء وتارَّة أخرى يخرجهُ منها، وفي كل مرة يستشعر بأن الماء بارد جدًا؛ فيخرج الطرف الاصطناعي سريعًا وهو سعيد جدًا بذلك وكأنها قدمهُ الحقيقية؛ فسعدت بهذا الڤيديو جدًا وقلت في نفسي سوف أجعل مهند يشاهدهُ لكي يتأقلم مع وضعه وتتحسن نفسيتهُ، وبعد يومين ذهبت مجددًا إلى مهند في المستشفى وفور وصولي إلى غرفته ألقيت عليهِ التحية وقلت: السلام عليكم يا مهند كيف حالك؟ فلم يجيبني؛ لأنه ما زالَ لا يتحدث مُطلقًا. فقلت له: مهند أنا أشعر بك جيدًا، أنت تتألم وتشعر بأن مصيبتك جلل ومُوجعة جدًا ونفسك لاتطيقها ولا تحتملها، أنت تظن أنه بذلك الابتلاء تدمرت حياتك.. وآمالك.. وطموحاتك؛ فلنتوقف بأفكارنا ولنتدبر سويًا هذه الآية الكريمة قال الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}. ثُمَّ أخرجت هاتفي وبدأت بتشغيل الڤيديو لمهند فعندما رآهُ ضَحِكَ وقال: يشعر وكأنَّها قدمهُ! ويشعر ببرودة الماء! فَصدِمت! وتسارع نبضي وكدتُّ لا أسيطرُ على أنفاسي وقلت في نفسي مهند يتكلَّم! يا الله كيفَ ذلك؟! فشعرت بالخوف والقلق وأحسست بأنها حالة هستيرية أصابتهُ، وبدلًا من أن كنت أعالجهُ من مشكلة عدم النُّطق تسبَّبت له بمشكلةٍ أكبر يا للهول ساعدني يا الله، وبينما أنا سارح في هذهِ الأفكار استوقفني مهند بكلماته وقال: جُزيتَ خيرًا يا دكتور ساعدتني كثيرًا على تجاوز محنتي؛ فَصدِمت أكثر من الفرحة مهند ليسَ لديهِ حالة هستيرية، مهند تعالج بالفعل فقلت: مهند أنت تتكلم حبيبي! سأُبشر الجميع حالًا بأنك تحدثت؛ لكي يأتوا للاحتفال معك… وأثناء عودتي إلى المنزل استرجعت كل ما حدث وقلت: اللهم بارك استطاع مهند بأن يتقبل وضعهُ وأنا مع كل ذلك النعم ولم أتقبل وضعي، وبدأت استرجع كلماتي مع مهند وأستعجب وأقول: كيف نكون بارعون في النصح إلى درجة تغيير مسار أفكار إنسان آخر ولا نستطيع تغيير مسار أفكارنا من عدم التقبل والحزن إلى الرضا والقبول والسعادة! فأحسست بخطئي فعلًا وأنني لن أصلح إلا في مجال (طب الجراحة) لأنه اختيار الله عز وجل وتقديرهُ إليَّ ومؤكدًا هو الخير؛ فشعرت بانشراحٍ في صدري، وطيبٍ في نفسي، وسُرورٌ في قلبي، وقلت اللهمَّ لك الحمد حتى ترضى، وحتى يبلغ الحمد منتهاه.
-اسعَ إلى كل ما هو جميل.. كابد.. كافح.. جاهد.. عافر.. ناضل.. قاوم.. وعند قدوم النَّتيجة إذا رأيتها معاكسةً لِمَا كنت تسعى إليه؛ فلا تضجر، ولا تحزن، وتأكد تمامًا بأنها الخير؛ لأنَّك بذلت ما في وسعك، واعلم أن الله العدل الرحيم لن يضيعك أبدًا، وتأكد يقينًا أن الله يشعر بك، ويعلم ما في نفسك، وما في قلبك؛ فلا تَهِن ولا تَحزَن فالله معك.
-أيُّها المبتلى, يا حزينًا في الليالي سَيُجزِيكَ ربي خيرًا على كل ما تُعاني فصبرًا تذوبُ بمرهِ كل الآلامِ.