القاهرية
العالم بين يديك

قريتي بين عهدين

689

سامح بسيوني

قبيل الفجر وصوت الديك يأتي من حظيرة خالتي عزيزة؛ ليعلن للكون فجرًا جديدًا يصعد المؤذن درجات المئذنة؛ ليعلن نداء الحق، والمصلون يجلسون في خشوع يدعون الله أن يفرج الهموم وأن يرد عن أمة الإسلام المكائد وأن يوحد شملهم، والشيخ بسيوني في داره يستعد لصلاة الفجر في جماعة ويوقظ أبنائه الصغار صباح الابنة الكبرى وسامح الأصغر سنًا.

فيأخذ الإبريق ودلوه يقوم بالوضوء ويسبغه مرات ومرات عديدة؛ لأنه كان كثير الوسواس ويفرغ من وضوءه ويلبس جلبابه الأبيض، ويصحب الشقيقين إلى المسجد ؛ فكان يخاف أن يتركهما بمفردهما في داره لأنها كانت دار كبيرة والأخوين يخافان من تلك الدار الواسعة.

فكان الشيخ يجلس في دار أخيه سعد الذي كان يقطن في القاهرة وكان ينزل فيها ضيفًا لعدة أيام ثم يعاود أدراجه إلى المحروسة يقضي فيها مصالحه وتجارته.

وكان للعم سعد غرفته المستقلة لا يجرؤ أحد أن يدخلها حتى في ظل غيابه ؛ لشده وصارمته المعروف بها، يضع فيها قطعًا من الملبن الذي يتميز بالمكسرات فطعمه لذيذ يشتاق إليه الأخوان الصغيران.

وكانت الدار مكونة من طابقين مبنية بالطوب اللبن وبها بوابة بالخشب ومحفورة عليها اسم صانعها وبعض الرسومات والأشكال المختلفة، وبها فناء واسع يطلقون عليه -وسط الدار- والطابق الأول به ثلاث غرف ؛ غرفة بها فرن بلدي وكنا ننام عليه في الشتاء بعدما ننتهي من صنع الخبز عليه، وغرفة أخري مليئة بالتراب وكنت وأنا صغير لا أدري لماذا تلك الكميات الكبيرة من التراب المتراكم بعضه على بعض ؟ ثم غرفة كانت معدة للمواشي والأنعام وهي ما تسمي -بالزريبة- ثم سلم خشبي على شكل درجات السلم محاط بالجانبين بالخشب لسلامة الصاعد عليه، وعند الإنتهاء من المصعد الخشبي تجد غرفة على يسارك خاصة بالعم سعد ، وغرفة أخري في المقابل كان يجلس فيها الشيخ وأبنائه؛

وكانت الغرفة بها كنبة يجلس عليها الشيخ ويجعلها راحة له عند نومه وصوت المذياع لا ينقطع من الغرفة من إذاعة القرآن الكريم والسماع إلى كبار المقرئين – الحصري و البنا والمنشاوي ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط عبدالصمد – وكان الشيخ يفرش للصغار على الأرض والصغير سامح كان يخاف أن ينام على الطرف فيكون قريبًا من باب الغرفة فكانت الأخت الكبرى تنام قريبة من الطرف، والشيخ كان يضع شمروخًا كبيرًا على باب الغرفة؛ ليحكم غلق الباب جيدا، وخوفًا من اللصوص فكانت الدور كلها قريبة من بعضها ، ويسهل النزول على سطحها ولكن الشيخ كان جرئيًا شجاعّا مقدامًا وكان معروفًا بين أهل قريته بشجاعته وجرئته.

الشيخ يرجع من قضاء صلاة الفجر في جماعة والأبناء يظهر عليهم التعب والهزلان، والشيخ أخذه الفكر في ماض ليس ببعيد عندما كان تاجرًا من أعيان قرية زاوية جروان فكان يملك أكثر من مئة نول لصناعة الغزل والنسيج بخلاف ما يملكه من أراض زراعية فهو رجل يملك من الحشم والخدم وكلمته مسموعة بين أهل قريته.

فالشيخ من أشراف بلدته وتجارها الكبار فهو صهر لعمدة القرية – محمود ترك – الذي ينتهي نسبه للأتراك ، وكان الشيخ رجلًا متواضعًا كريمًا سخيًا عطوفًا إلى أبعد الحدود على أهل قريته؛ فيقوم كل خميس بذبح ذبيحة لأهل بلدته توزع على على الفقراء والمساكين والمحتاجين.

ومع مطلع الثورة تبدل الحال وتدهورت تجارته وتراكمت عليه الديون فاضطر بأن يبيع ما يملك من أراض زراعية وما يملكه من أنوال للغزل ؛ حتى أفتقر وترك بلدته ورحل إلى القاهرة والتحق بوظيفة في شركة الكهرباء ؛ ليعمل فيها عاملًا للحدائق يسقي زرعها ويراعي أشجارها، وعند بلوغ سن المعاش رجع إلى قريته ومعه صغاره.

ويقطع فكر الشيخ في ماضيه صوت – الحاجة زينب- التي كانت تجلس على البوابة الرئيسية للبلد فهي بمثابة المدخل الرئيسي لها، فكانت تصنع الفول والفلافل والباذنجان ، وتقول صباح الخير: ماذا تريد أيها الشيخ الطيب الحنون؟ فهي تذكره بكل خير وكانت تعلم ما له يد خير على أهل قريته في الماضي.

وكان الشيخ يأتي إلى القاهرة ؛ليصرف معاشه ويقوم بالاطمئنان على أبنائه الكبار الشيخ طلعت الإبن الأكبر ودكتور محمود، وبناته الكبريات أم محمد وفايزة ورأفت وفوزية ورجاء.

وكان يصحب معه الصغير سامح إلى مكتب البريد ، ويترك الكبرى مع إحدى اخواتها فحدثت مفاجأة كبرى عندما ذهب ؛ لأخذ معاشه
يتبع……

قد يعجبك ايضا
تعليقات