متى تكون الهدية محرمة؟
فرج العادلي
وقبل تلخيص كلام أهل العلم المفصل في مظانه يجب أولًا أن نتفق على أن الهدية والرشوة كليهما يخرجان من صاحبهما بطيب نفسٍ منه.
ثانيًا: إن من يدفعُ الهديةَ يكون له غرضٌ في ذلك.
والغرضُ نوعان: عاجلٌ وآجلٌ.
والآجل: هو دفع الهدية لشخصٍ يبتغي فيه رضا الله جل في علاه.
مثل دفع الهدية لرجلٍ يحتاجها، فيوسع عليه، ويكون قد فرَّج عنه كربةً من كرب الدنيا، ولا يشترط كون الآخذ معدودًا من الفقراء.
أو يدفعها لعالمٍ أو طالبِ علمٍ ليستعين بها على طلب العلم ابتغاء وجه الله تعالى، أو يدفعها لمن تخلى للعباده، وهذا كله لا حرج في قبول الهدية إذا كان الآخذ للهدية على نفس الصفة التي قصدها المُعطي، فإن أعطاه لشخصٍ على أنه عالمٌ وهو ليس كذلك بل يتظاهر بالعلم فلا يجوز له أخذها.
وأما العاجل وهو أنواع:
١_ أن يدفع شخصٌ هديةً ليحصلَ بها على ما هو أفضل منها.
كأن يدفع الفقيرُ هديةً لرجلٍ غنيٍ أو ذي سلطان، ليردها له الغنيُ أو صاحبُ المنصب مضاعفةً أو أفضلَ منها، فلا يحل للغني أو صاحبِ المنصب أخذها إلا إذا نوى ردَّ أفضل منها أو مثلها على الأقل، لأن المعطي بذلها مشروطة، وإن لم يكن صرح بالشرط لكن المعروف عرفا كالمشروط شرطًا.
٢_ أن يدفع هديةً لذي هيئة أو سلطان (واسطة كبيرة) ليرفع حاجته لمن يستطيع قضاءها، كأن يدفع لمديرِ مصلحةٍ هديةً ليدخلَه على وزيرٍ- مثلا-ليقضي له حاجة ما، وهي ليست من صميم عمل المدير، بل تُعدُ خدمة منه، فيجوز قبول الهدية ويكون الآخذ للهدية بمنزلة الأجير الذي يقدم عملًا لغيره فيستحق أجرة، بشرط أن يكون العمل مباحا، أو أن يكون المطلوب حقًا لمن يطلبه، أما إن كان العملُ حرامًا أو حقًا للغير، أو سعيًا في إلحاق الضرر بشخص ما فلا يجوز بداهةً، وتكون محرمة، ورشوة لا يمكن قبولها.
٣- أن يكون في هذه الخدمة جُهدٌ مبذول، أما إن كانت الخدمةُ مجردَ كلمةٍ يقولها صاحبُ المنصبِ، أو الواسطةُ فلا يجوز له قبولُ الهدية.
كمن يأخذ هديةً من رجلٍ ليوصي له بواب المؤسسة -مثلا- أن لا يمنعه من الدخول.
وهذه الكلمة (أي طلب عدم منعه من الدخول) لا تستحق مقابل لتفاهتها، فلا تعد خدمة، وهي من قبيل بيع الجاه، والجاه لا ثمن له، بل له قيمة، فساعتها لا يجوز له أخذ الهدية على مثلها.
ومثلها الطبيب الذي يأخذ مالا مقابل نصيحة طبية، فلا يجوز ذلك إلا إذا بذل جهدًا في الكشف والفحصِ كما قال بعض أهل العلم.
٤- أن يهبه هديةً طلبا لمحبته فقط
وهي أنواع:
١_ أن يسعى لحبه من أجل صحبته، والسمر معه، والاستئناس به، وهذا جائز باتفاق، بل مسنون لقول النبي-صلى الله عليه وسلم- «تهادوا تحابوا..» وإن كان فيه مقال.
٢- أن يهدي إليه لمحبته لكن ليس من أجل الاستئناس به، أو صحبته، أو رفقته… بل ليتوصل به لمصلحة ما إذا احتاجه يومًا ما، كمن يتقرب لأصحاب المناصب وليس له مصلحة حالية في وقتها، أو يتقرب لبعض المشاهير.
والمشاهير نوعان: نوع من أصحاب العلم والدين، ولا حرج كبير في التقرب إليهم، لأنهم لن يخدموه في ما لا يجوز، وليس لهم سلطانٌ ليفعلوا كل ما يُطلب منهم حينها، ومع ذلك يكره لهم أخذ الهدية منه.
وأما إن كان المشاهير من غير أصحاب الدين، أو ممن تولى منصبا معينا فنسأل صاحب الهدية سؤالا فنقول له: إن هذا الرجل الذي تقول أنك تعطيه من أجل المحبة، أرأيت إن تم عزله وتولى غيره قبل أن تدفع له الهدية هل كنت ستدفعها له بعد العزل، أم تدفعها لمن تولى مكانه؟
فإن قال أدفعها لمن تولى مكانه فهي رشوة محرمة، وإن قال أدفعها لمن تم عزله جازت مع الكراهة الشديدة كما قال الإمام أبو حامد الغزالي- رحمه الله- في الإحياء، وذهب بعض العلماء لحرمتها.
(ملاحظة: هذه الصورة تختلف عمن يدفع هدية لمصلحة معلومة ومعروفة وناجزة أي يحتاجها فورا فإنها محرمة باتفاق، أما هذه الصورة فإنه يدفع وليس له مصلحة حالية، بل ربما يكون له مصلحةٌ في المستقبل.)
هذا وأؤكد على أن الكلام على من يقبلُ الهدية وليس على المعطي لها، فإن المعطي له أحكام خاصة به أيضًا.
والله تعالى أعلى وأعلم.