كتب الناقد الأدبي د/ عادل يوسف
هل شعرت يوما بلذة الخوف؟!
هل لاحظت أن الناس تستمتع بالخوف أحيانا؟!
هل الخوف ضرورة إنسانية نحتاجها من وقت إلى آخر؟!
هل رغبت يوما في أن تكون خائفا بعض الوقت، وأنت راض كل الرضا عن هذا الخوف بل ومستمتعا به وراغبا في المزيد منه؟!
قد تستغرب عزيزي القارئ من هذه الأسئلة غير المألوفة لديك ، ولك الحق في ذلك، فمن ذا الذي يستمتع بالخوف والرعب ويرغب في العيش معهما؟!
وللإجابة عن كل الأسئلة السابقة أقول لكم : إن الخوف أو الحاجة إلى الشعور بالخوف غريزة أساسية عند بني البشر، ولا يمكن أن يستغنوا عنها أو يعيشوا بدونها، وكيف ذلك ؟!
سأذكر لكم بعض الأدلة لتأكيد هذه الفكرة: إذا ذهبت إلى مكتبة لبيع الروايات المتنوعة كالرومانسية، والاجتماعية،والخيال العلمي ، وسألت البائع عن أكثر الروايات مبيعا ،سيخبرك أن أكثرها مبيعا هي روايات الرعب ويرغب في اقتنائها كل الأعمار، فهم يدفعون أموالهم مقابل حصولهم على لحظات من الخوف والرعب تقدمها لهم هذه الروايات.
وإذا لم تقتنع بهذا الدليل فهناك أفلام الرعب التي تحقق أعلى الأرباح لأنها تقدم لنا لذة الخوف والترقب.
وهناك مدينة الألعاب، وأنا أوكد لك أنك ستجد زحاما كبيرا على الألعاب التي تثير الخوف في قلوب الناس مثل قطار الموت ، وبيت الرعب ، وغيرها من الألعاب التي تسمع من بعيد صوت صرخات من يشاركون فيها ، فما الذي تقدمه هذه الألعاب للناس كي يتزاحموا عليها هذا الزحام الشديد؟!
لا شيء سوى لحظات من الخوف والرعب ، يذهبون إليها بملء إرادتهم ودون إجبار من أحد وهم فرحون راضون ، يقفون في طوابير طويلة من أجل أخذ جرعة من الخوف الممتع اللذيذ.
وإذا أردت دليلا أخر فاقرأ قصة ( خائفة من شيء ما) التي بين أيدينا وهي مقتطفة من الباقة القصصية ( إني راحلة) للكاتب عمرو أنور.
والكاتب عمرو أنور سطع نجمه في سماء الإبداع بكتابته مجموعة قيمة من الأعمال الأدبية منها : رواية الجميلة والحطاب وهي سلسلة من سبعة أجزاء ، وأربع مجموعات قصصية هي: مضطربون ولكن ظرفاء ، والمضطربون قادمون ، وآدم بين مطرقة حواء والسندان .
ويوضح لنا الكاتب عمرو أنور في قصته( خائفة من شيء ما) المأخوذة من المجموعة القصصية (إنى راحلة ): أن هناك نوع من النساء يعشقن الرجل القاسي العنيف عشقا قويا رغم الخوف المستمر من قسوته وجبروته وفحش قوله وبذاءة لسانه .
لكن هذا النوع من النساء يستمتع بالخضوع لهذا الزوج القاسي رغم قسوته والتي لا يطيقها بعض البشر، ومع كل هذا تعشقه ولا تتنازل عنه بل تغار عليه من باقي النساء اللاتي يحسدنها على النعيم الذي تنعم به ، نعيم الخوف الدائم الذي تعيش فيه مستمتعة به وهي على استعداد أن تحرق كل من تشاركها فيه ، إنه الإحساس بمتعة الخوف ولذته.
وتدور أحداث قصة ( خائفة من شيء ما ) حول ( فاتن) هذه الطفلة الصغيرة التي تركتها أمها مع المربية ( نظيمة) لظروف عملها وشغلها المستمر ، وأصبحت هذه المربية مسئولة عن ( فاتن) من مأكل ومشرب ولعب وتسلية ، فكانت تحكي لها الحواديت التي تحتوي على المغامرات والعنف الذي يثير مشاعر الخوف واللهفة.
ثم تتحول المربية من حكاية حواديت المغامرات إلى حكايات (أمُنا الغولة) وكانت نظيمة عندما تحكي لها قصة ( أمُنا الغولة) وهي تطارد طفلا صغيرا داخل الغابة كانت تتخيل نفسها وكأن (أمُنا الغولة) تخنقها وتقتلها.
ترسبت مشاعر الخوف داخل ( فاتن) واستحكمت فيها فكانت تخاف من نزول السلم وحدها ؛ لأنها كانت تتخيل أن ( أمُنا الغولة) سوف تقتلها فتشعر بالرعب، ويرتعد جسدها، ويقف شعرها، وتصبب عرقا ،وأصبحت هذه الظواهر تسبب لها متعة شديدة.
ثم جاءت نقطة التحول الشديد وهي زواج ( فاتن) من زوج وسيم وعطوف وحنون يكره كل طرق العنف .
وبعد فترة وجيزة من الزواج بدأت تشعر( فاتن) بالملل ورتابة هذه الحياة فأخذت تستفز زوجها بكل طريقة كي تتخلص من هذه الحياة الرتيبة.
وتأتي نقطة تصاعد الأحداث عندما قامت ( فاتن) بإهانة زوجها بكل طريقة فقالت له : ” أنت جبان وحقير ووضيع؛ فقام بضربها ضربا شديدا
انتقاما منها، وعندما حاول أن يعتذر لها عما بدر منه رفضت ذلك” .
وهكذا حولت زوجها من رجل حنون وعطوف إلى رجل قاسي عنيف كي تشعر بمتعة قسوته وجبروته.
ويصحبنا الكاتب عمرو أنور في مجموعته القصصية( إني راحلة) مع أنواع متعددة من الخوف والتي سببت متعة للخائف .
ففي قصة ( المنانة) نجد خوف الزوجة من هروب من هروب زوجها منها بعيدا ؛لذلك تلجأ إلى تذكيره دائما بأفضالها عليه ،وتضحيتها كثيرا من أجله.
ومرورا بقصة ( دانتيلا) التي نجد فيها الخوف من الوحدة ؛ لذلك تلجأ بطلة الرواية إلى البحث عما يشغل وحدتها ؛ فبحثت عن الشخصية المطيعة التي لا تتمرد عليها أبدا.
ووقوفا بقصة ( همسات الجنون) تلجأ الممثلة إلى تصدير الخوف لزوجها المخرج الشهير حتى لا ينفصل عنها ؛ فتخترع الأكاذيب وتدعي بأنه يحاول التخلص منها، وتخيره بين أن يستمر معها أو أن يكون مصيره السجن.
وقد تميزت قصة (خائفة من شيء ما) بعدة سمات هي :
العنوان الجاذب : عنوان اختاره عمرو أنور لقصة اجتماعية عاطفية ، وجاء العنوان معبرا عن نقطة جوهرية في القصة وهي الخوف اللا محدود
فبطلة القصة صارت تخاف من كل شيء، وأصبح الخوف يلازمها، ويتحكم فيها حتى مع زوجها.وصارت تعيش مع الخوف بكل رضا وسعادة.
الحبكة الدرامية: توفرت في هذه القصة كل العناصر الدرامية من ترتيب الأحداث ترتيبا منطقيا حسب التسلسل الزمني، فتحدث الكاتب عن رحلة الخوف مع فاتن منذ طفولتها المبكرة ، مرورا بفترة الصبا ، ثم الشباب ، تم زواجها، وظهر الصراع النفسي داخل شخصية (فاتن) من خلال إحساسها برتابة الحياة الزوجية ورغبتها في حياة عنيفة تقوم على الخوف والترقب
وكذلك الصراع بينها وبين زوجها الحنون العطوف الوسيم.
الاهتمام بالتفاصيل: وهي إحدى السمات المميزة لهذه القصة ، وقد تجلت في وصف حالة الملل والبرود والجفاف التي كانت تشعر بها (فاتن) وهذه التفاصيل جعلتنا نتخيل فاتن كأنها أمامنا يقول الكاتب على لسان فاتن:
” بعد فترة وجيزة من الزواج بدأت أشعر بالملل ورتابة الحياة الزوجية كنت أراها خالية من الإثارة وقلت في نفسي لن أستطيع أن أحيا هكذا سأبدأ في استفزازه. ..سأضاعف من سلاطة لساني”
الواقعية:سمة واضحة جدا في هذا العمل وظهرت في رسم تفاصيل الشخصيات وفي الحوار بين الشخصيات مما جعلنا نرى الأبطال أمامنا تقول فاتن :
” تقدم للزواج مني إنسان حنون، وسيم ، مثقف ، راق الحس والمشاعر ، يكره العنف بكل صوره”
ولنتأمل معا هذا الحوار الواقعي الخطير:
– لن تخرج وتتركني كإحدى قطع الأثاث.
– سأخرج.
– أنت إنسان ضعيف .. بلا شخصية .
– لا داعي لأن تزيدي الموقف اشتعالا.
شاعرية اللغة والأسلوب: جاءت اللغة معبرة عن الشخصيات والأحداث وتميز أسلوبه بجمال الوصف وانتقاء التعبيرات المعبرة عن الحدث مثل احمرت عيناه ، وجحظت مقلتاه، وقطب جبينه ، وارتعشت أنامله. ولم نجد أية ألفاظ مخلة أو خادشة للحياء.
أسماء الشخصيات:كانت لها دلالة جوهرية أثرت في سياق الأحداث مثل اسم المربية ( نظيمة) التي كانت تقوم بتنظيم حياة فاتن من مأكل ومشرب وتسلية ولعب وتعليم.وكذلك استخدم التنكير في باقي الشخصيات فلم يذكر اسم الأم ولا اسم الزوج وذلك لإفادة العموم والشمول.
نهاية القصة : تميزت هذه القصة بنهاية غير تقليدية ولكنها في نفس الوقت منطقية ؛وذلك لتترك أثرا راسخا في ذهن القارئ ، حيث فاجأنا الكاتب أن زوجها تحول من الشخصية الحنونة إلى الشخصية المستبدة ليرضي زوجته ، لكنه تزوج بزوجة أخرى حنونة وعطوفة.