القاهرية
العالم بين يديك

في القصر 1

119

د.ميساء إمام

خطى “صبر ” نحو الخمسين وهويحبو كما يحبو راتبه الهزيل ويتعثر في حبوه ، ليتمكن بالكاد من توفير مايقتات به أبناؤه وما تتطلبه الحياة من ضرورات قصوى لا رفاهة فيها
وفي صبيحة يوم من أيام معاناته المعتادة بمحطة السكة الحديد التي يعمل بها لمح جمهرة من العماله أمثاله تلتف حول إعلان علق بأحد الجدارن ،و تشرأب أعناقهم نحوه آمله أن يطل عليهم من رحمه مولود جديد بعلاوة مبشرة أو حافز ضل طريقه إليهم وفجأة انطلقت منهم قهقهات صاخبة وهم يرددون :
رحلة ؟! ولقصر عابدين ؟! والله ناس رايقة، هو إحنا عارفين نكفي بيوتنا طلبات لما هنروح رحلات وطبعا بن المحظوظة اللي هيطلع الرحلة مكافأة ببلاش دا واحد من المحاسيب مش مننا صحيح ناس هايصة وناس لايصة ” ثم تفرقوا كصغار الدجاج التي لم تجد ماتقتات به من حب

تابع صبر المشهد بلامبالاه تتجاوز حجما خط بارليف الفخيم الذي انهار ذات يوم بالخراطيم ، فالفكرة لم تكن يوما ما ضمن
بنات أفكاره العوانس ،اللائي لا يراودهن عن أنفسهن سوى ذلك الفارس الذي سيأتيهن باللحم والثريد ويهديهن من أنيق الثوب
ماتحلم به من زمن بعيد

لكنه القدر حين يشاء صاحب القدر لا يمكن أن يوقفه بشر ،فقد فاز صبر بالرحلة لاختياره العامل المثالي لهذا الشهر وكانت مفاجأة أعجزت لسانه عن التعبير وفجرت بشغاف قلبه مزيج متضارب من الدهشة والفرحة والقلق وهو الذي قضى عمرا لم تعرف قدماه سوي الطريق من بيته لمحطة السكة الحديد والعكس
ولكنه بين يوم وليلة يجد نفسه بين أحضان وارفة تعزف الطيور فوق أغصانها عذب الألحان ويمر نسيمها بتعاريج وجهه يعيد إليها شبابها الضائع تحت قضبان السكة الحديد ، يحنو عليه حنوا لم يذقه منذ الفطام ويملأ صدره عبيرا منعشا وهو الذي لم يعرف في حياته سوى رائحة وقود القطارات والعطن بمنزله العتيق
إنهاحديقة قصر عابدين العظيم ، يسير فيها منبهرا بألوان النباتات والزهور التي تتناكح نكاحا شرعيا ويستظل بأشجارها الشامخة شموخ التاريخ وبين روائع تلك المواجيد حوله غاب صبر في فضاء هذا الجمال لينسى حياته للحظات وفجأة….

غدا جزء جديد

قد يعجبك ايضا
تعليقات