”
إعداد / محمـــد الدكـــرورى
ونكمل الجزء التاسع مع نبى الله إبراهيم عليه السلام، وقد توقفنا عندما روي أن السيدة سارة لما غارت من السيدة هاجر بعد أن ولدت إسماعيل خرج بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فروي أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة، وترك ابنه وأمته هنالك وركب منصرفا من يومه، فكان ذلك كله بوحي من الله تعالى، فلما ولى دعا لهم، ولما أراد الله تأسيس الحال، وتمهيد المقام، وخط الموضع للبيت المكرم، والبلد المحرم، أرسل الملك فبحث عن الماء وأقامه مقام الغذاء، وجاء في الصحيح أن أبا ذر الغفارى رضي الله عنه اجتزأ به ثلاثين بين يوم وليلة، وقال أبو ذر رضى الله عنه ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكني، وما أجد على كبدي سخفة جوع، وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “ماء زمزم لما شرب له إن شربته تشتفي به شفاك الله وإن شربته لشبعك أشبعك الله به وإن شربته لقطع ظمئك قطعه وهي هزمة جبريل وسقيا الله إسماعيل” رواه الدارقطني، وروي أيضا عن عكرمة قال.
كان ابن عباس رضى الله عنهما إذا شرب من زمزم قال ” اللهم إني أسألك علما نافعا، ورزقا واسعا، وشفاء من كل داء” وقال ابن العربي وهذا موجود فيه إلى يوم القيامة لمن صحت نيته، وسلمت طويته، ولم يكن به مكذبا، ولا يشربه مجربا، فإن الله مع المتوكلين، وهو يفضح المجربين، وقال الترمذي وحدثني أبي رحمه الله، قال دخلت الطواف في ليلة ظلماء فأخذني من البول ما شغلني، فجعلت أعتصر حتى آذاني، وخفت إن خرجت من المسجد أن أطأ بعض تلك الأقدام، وذلك أيام الحج، فذكرت هذا الحديث، فدخلت زمزم فتضلعت منه، فذهب عني إلى الصباح وروي عن عبد الله بن عمرو إن في زمزم عينا في الجنة من قبل الركن، وأما قوله تعالى ومن ذريتي وكلمة “من ” في قوله تعالى من ذريتي للتبعيض أي أسكنت بعض ذريتي، يعني إسماعيل وأمه لأن إسحاق كان بالشام وقيل هي صلة، أي أسكنت ذريتي، وأما عن قوله تعالى “عند بيتك المحرم” هو يدل على أن البيت كان قديما على ما روي قبل الطوفان، وقد مضى هذا المعنى في سورة البقرة، وأضاف البيت إليه لأنه لا يملكه غيره.
ووصفه بأنه محرم، أي يحرم فيه ما يستباح في غيره من جماع واستحلال، وقيل محرم على الجبابرة، وأن تنتهك حرمته، ويستخف بحقه، وأما عن قوله تعالى ربنا ليقيموا الصلاة فقد خصها من جملة الدين لفضلها فيه، ومكانها منه، وهي عهد الله عند العباد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم “خمس صلوات كتبهن الله على العباد ” واللام في ليقيموا الصلاة لام كي، هذا هو الظاهر فيها وتكون متعلقة ب ” أسكنت ” ويصح أن تكون لام أمر، كأنه رغب إلى الله أن يأتمنهم وأن يوفقهم لإقامة الصلاة ، وقد تضمنت هذه الآية أن الصلاة بمكة أفضل من الصلاة بغيرها لأن معنى ربنا ليقيموا الصلاة أي أسكنتهم عند بيتك المحرم ليقيموا الصلاة فيه وقد اختلف العلماء هل الصلاة بمكة أفضل أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فذهب عامة أهل الأثر إلى أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من الصلاة في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بمائة صلاة، واحتجوا بحديث عبد الله بن الزبير قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام.
وصلاة في المسجد الحرام أفضل من صلاة في مسجدي هذا بمائة صلاة ” وعن جابر بن عبد الله قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف فيمن سواه” وأما قوله تعالى فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم، الأفئدة جمع فؤاد وهي القلوب، وقد يعبر عن القلب بالفؤاد فكأنه قال واجعل وفودا من الناس تهوي إليهم، أي تنزع، ويقال هوي نحوه إذا مال، وقوله تهوي إليهم مأخوذ منه وقال ابن عباس ومجاهد لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليه فارس والروم والترك والهند واليهود والنصارى والمجوس، ولكن قال من الناس فهم المسلمون فقوله تهوي إليهم أي تحن إليهم، وتحن إلى زيارة البيت، وقال مجاهد ” تهوى إليهم ” أي تهواهم وتجلهم، وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون فاستجاب الله دعاءه، وأنبت لهم بالطائف سائر الأشجار، وبما يجلب إليهم من الأمصار، وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه فقالت.
خرج يبتغي لنا ثم سألهم عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بشر، نحن في ضيق وشدة، فشكت إليه، قال فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغير عتبة بابه، فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا فقال هل جاءكم من أحد، قالت نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألني عنك فأخبرته، وسألني كيف عيشتنا فأخبرته أنا في جهد وشدة، قال فهل أوصاك بشيء، قالت أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول غير عتبة بابك، قال ذاك أبي وقد أمرني أن أفارقك، الحقي بأهلك، فطلقها وتزوج منهم أخرى فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده، ودخل على امرأته فسألها عنه فقالت خرج يبتغي لنا، فقال كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت نحن بخير وسعة وأثنت على الله، فقال ما طعامكم ؟ قالت اللحم، قال فما شرابكم ؟ قالت الماء، فقال ” اللهم بارك لهم في اللحم والماء” وقال النبي صلى الله عليه وسلم ” ولم يكن لهم يومئذ حب ولو كان لهم دعا لهم فيه ” قال فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه، وقال ابن عباس قول إبراهيم فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم أى أنه سأل أن يجعل الله الناس يهوون السكنى بمكة.
فيصير بيتا محرما، وكل ذلك كان والحمد لله، وأول من سكنه قبيلة جرهم، فبعد قوله وإن الله لا يضيع أهله وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وعن شماله، وكذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم قافلين من طريق كذا، فنزلوا بأسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا فقالوا، إن هذا الطائر ليدور على ماء، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جريا أو جريين فإذا هم بالماء، فأخبروهم بالماء فأقبلوا، قال وأم إسماعيل عند الماء، فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندك ؟ قالت نعم ولكن لا حق لكم في الماء، قالوا نعم، وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم ” فألفى ذلك أم إسماعيل وهي تحب الأنس فنزلوا وأرسلوا إلى أهلهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم، شب الغلام، وماتت أم إسماعيل، فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته” ثم جاء بعد ذلك، وإسماعيل يبرى نبلا له تحت دوحة قريبا من زمزم، فلما رآه قام إليه، فصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد، ثم قال إن اللهَ أمرني بأمر، قال فاصنع ما أمر ربك، قال وتعيننى ؟ قال وأعينك، قال فإن الله أمرني أن أبني ها هنا بيتا.
وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، قال فعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني، حتى إذا ارتفع البناء، جاء بهذا الحجر، فوضعه له فقام عليه، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة، وهما يقولان ” ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ” قال فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان ” ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ” ولقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يهبه ولدا صالحا، وذلك عندما هاجر من بلاد قومه، فبشره الله عز وجل بغلام حليم، وهو إسماعيل، الذي ولد من هاجر، بينما كان إبراهيم الخليل، في السادسة والثمانين من عمره، فهو أي إسماعيل، أول ولد لإبراهيم وهو الولد البكر ويقول الله عز وجل ” وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين، رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم” وعندما كبر إسماعيل، وشب، وصار بمقدوره، أن يسعى ويعمل كما يعمل ويسعى أبوه، رأى إبراهيم الخليل، في المنام أن الله يأمره أن يذبح ولده، ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي، فقال الله تعالى فى كتابه الكريم ” فلما بلغ معه السعى قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى”
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية