بقلم رانيا ضيف
“طوبى للغرباء” كل من تمسك بأخلاقه وقيمه وثوابته في زمن أدهشنا بواقعه الغريب .
فاق زمننا كل توقعاتنا حتى باتت مجرياته أشبه بالكابوس، تغيرت منظومة النجاح والقيم العليا فلا ثمن للثقافة والعلم في ظل مشهد عالمي هزلي، سواء على الصعيد الأكاديمي، السياسي، الفني، الثقافي أو الاقتصادي ستجد كل ما يصيبك بالذهول حد الصدمة .
فمعايير النجاح الحالية إما ربح مادي يؤدي لثروة أو ربح معنوي يؤدي لشهرة فتؤدي لثروة أيضا !
كل شيء يبدأ بالمال وينتهي بالمال !
تناول الكاتب والمفكر الكندي والأستاذ الجامعي آلان دونو في كتابه “نظام التفاهة” الذي صدر عام ٢٠١٧ صعود التافهين وأسبابه والتحول العالمي لتبنيهم بل وصناعتهم، وكيف تغيرت معايير النجاح .
كما كتب ميلان كونديرا كاتب فرنسي من أصل تشيكي كتاب بعنوان ” حفلة التفاهة “
وكيف أن العالم يتجه للرأسمالية الجشعة .
فالهدف هو الحصول على المال من أجل المال،
فغاب الاحتراف والخبرة وحلت محلهما المهنية،
وتم إقصاء الكفاءات وإهمال العلم والفكر العميق، وتسيد التافهون والجاهلون بعدما سادت قواعد الرداءة والمعايير الهابطة والذوق المتدني .
حتى مجال السياسة لم يسلم من التفاهة المتعاظمة والمنتشرة كالنار في الهشيم فتصدر المشهد مجموعة من التافهين يضعون قواعد للعامة على أساس أن لديهم مَلَكة الحُكم السديد، دون أدنى كفاءة أو دراسة أو علم !
فأصبح كل من لا يجد عملا ناشطا ومحللا سياسيا، أو من صُناع القادة إلى آخر كل تلك المسميات الفخمة الخالية من الجوهر !
يتحدث في الشأن العام وهو لا يمتلك أدني الأدوات التي تؤهله لذلك، فلو ألقيت نظرة على هؤلاء لتمنيت أن تكون في حلم مزعج وسينتهي.
حقا نحن في زمن الرويبضة !
بعدما كانت السياسة مرتبطة بمعاني الحق، العدل، الواجب والصالح العام تم إفراغها من مضمونها لتحل مفاهيم السوق الجديدة كالإدارة والشركة والخصخصة والربح حتى تحولت الدول لشركات كبيرة !
أصبحت السياسة مجرد حوكمة والشأن العام ما هو إلا تقنية إدارة خالية من المبادىء والقيم والمثل العليا .
ناهيك عن الإعلام والصحافة وما اعتراهما من فساد الذوق وانعدام القيمة وركاكة المحتوى فتجد الإعلامي أو الصحفي خاوي الفكر، متدني الثقافة ومعتل الذوق ..
يدعم ويقدم من يشبهه من أولئك التافهين الذين انتشروا على وسائل التواصل الاجتماعي -ممن يدعمهم جحافل من الباحثين عن كل ما هو غريب وتافه -فيسلط الضوء عليهم وهدفه الوحيد جني المزيد من نسب المشاهدات ومن ثم جني المال !
بعد أن كان للإعلام والصحافة دورا هاما في نهضة المجتمع وإعلاء القيم واستهداف إنجازات العلماء والمفكرين للارتقاء بالذوق العام وتهذيب الفكر والسلوك وغرس قيمة العلم وارتباطه بالنجاح ..
برز مقدمو البرامج الأكثر تفاهة من ضيوفهم فكل مقوماتهم مظهر حسن وقدرة على إجراء حوار هابط لا يفضي لشيء .
أي تغيرت معايير النجاح حتى اعتلى الصعاليك سلم الشهرة والثراء ولا مَلكات لديهم سوى القدرة على تقديم التفاهة !
أضحى المشهد عبثيا فسيطرت السطحية والخرافة وخلت الحياة من الطعم والأهمية، تدهورت الجودة وبرزت الأدوار المنحطة فخلت الساحة من الكفاءات بعد استبعاد العلم والفكر العميق والأدب الرفيع والفن الهادف !
لمعت شريحة من الجهلاء التافهين لدرجة أحبطت المثقفين والعلماء وكل من لديه قيمة يبتغي الوصول إليها أو يعمل وفقا لها .
لم تنج السلطة الرابعة من وباء التفاهة؛ فالعناوين الصحفية انفعالية لجذب الناس حتى لو كانت أكاذيب ولا تمت للحقيقة بصلة،
انتشرت صحافة ملاحقة المشاهير القائمة على اختراق الحياة الخاصة ونشر الفضائح لإشباع شهية المتابعين الباحثين عن هذا النوع من الأخبار وضمان ازديادهم !
تخدم الصحف ما يناسب توجه وأهداف من يدعمونهم ماديا ممن احتكروا النفوذ والسلطة والمال !
انتقل وباء التفاهة ليشمل عالم الأدب والثقافة والفن، ليس ضروريا أن يكون لديك رسالة أو فكرة تؤمن بها وتقاتل من أجلها إنما يكفي أن تتقن تقديم السخافات والخرافات والبلطجة والبذاءة لتتربع على عرش الفن بضمان نظام التفاهة .
لم يعد كل فنان مدرسة خاصة في الإبداع؛ له طابعه الخاص، ثقافته المختلفة، شكله ومظهره المميز، إنما تشابهت الوجوه واللباس والهيئة وخواء الجوهر حتى تكاد أن ترى الممثلين نسخا مكررة بأداء هزيل .
أكثر ما هدم الفن هو تبني صناع الأفلام لفكرة نقل الواقع فظهرت أفلام البلطجة والعنف والعري والألفاظ الفجة والمشاهد الخليعة في حين أن رسالة الفن معالجة الواقع بنشر وترسيخ ثقافة الجمال ورهافة الحس والحرص على النفع وإعلاء القيم الأخلاقية والإنسانية .
في نظام التفاهة ظهر الفن الرخيص والأدب الهابط بكلماته الركيكة ومعانيه التافهة وأسلوبه المبتذل ولغته الركيكة ومع ذلك بضاعتهم الفاسدة المزجاة رائجة ومكتسحة !
وكأننا نكافىء الرداءة والوضاعة على حساب المعنى والقيمة والجمال !
في ظل غياب العقل الناقد غلب الوعي الجمعي المتدني وتحول هؤلاء المفلسين لقدوة ومُثل عُليا !
أكاديميًا تنحى المثقف والحكيم والعالم الذي يضع الحق والحقيقة نصب عينه ويحتكم للضمير قبل إصدار الأحكام ليحل محله الخبير الذي يبيع كلمته وضميره لخدمة مصالحه الخاصة أو لحساب الجهات التي يعمل لديها !
أصبح العلم خادما ذليلا للمال .
لو نظرنا حولنا وتأملنا الواقع لوجدنا أن أكثر الناس شهرة وثراءً هم أولئك الذين تحقق أعمالهم المتعة والترفيه وإدخال السعادة على الناس، ثم أولئك الذين يقدمون خدمات حقيقية ومنفعة توفر الوقت والجهد، وبعد غزو التفاهة أصبحت الشريحة الأولى أكثر انتشارا ودون أي قدرات تُذكر سوى تقديم كل ما هو ساذج وتافه وغريب !
وسائل التواصل الاجتماعي صنعت هذا الوضع المزري بتحويل التافهين لرموز بسبب المتابعين وتسويقهم لهؤلاء، حتى تتبع الناس حركاتهم وسكناتهم !
فالجمهور العريض دائم البحث عن ما يفصله عن الواقع حبذا لو كان غريبا وتافهًا ..
فكانت وسائل التواصل الاجتماعي الصانع الأول والمروج الأساسي لكل تلك التفاهات .
وأصبح جني المال الشغل الشاغل ومعيار النجاح لدي الجميع .
فكلما زاد ثراءك كلما علت وارتفعت قيمتك في المجتمع .
والسؤال الصادم بعدما تغيرت معايير النجاح واعتلى التافهين عرش الثراء والشهرة دون أدني جهد أو قيمة حقيقية واتخذوهم الشباب قدوة، ما الدافع الذي يجعل طالب علم يتكبد مشاق العلم ومشواره الطويل الوعر لينتهي به المطاف لحياة مهمشة مليئة بالضغوط المادية،
وهو يرى غيره من التافهين حققوا الثراء والشهرة والحياة الرغدة بلا أي جهد أو تعب !
ربما يبدو المقال سوداويا لكنه مجرد وصف للاتجاه العالمي في ترسيخ مفاهيم غريبة وخلق معايير جديدة للنجاح؛ قد تكون كارثية على المدى البعيد إلا إذا تصدى لتلك الهجمات الشرسة المؤذية النخب المثقفة القليلة الذي عجز نظام التفاهة عن سحقها، والتي نأت بنفسها عن الاندماج في ذلك النظام التافه .
لازالت هي القادرة على الوقوف في وجه ذلك التدمير والتخريب الممنهج .
على كل من يرفض ذلك الواقع التعس ألا ينخرط فيه، تَعَلم أن تقيم وتنتقد ما يُقدم لك، تعرف على قواعد اللعبة وأهدافها وما يستدرجونك إليه .. اصنع عقلك الناقد فوعيك هو منقذك .. تمسك بقيمك ومبادئك السامية
كن راديكاليا يا عزيزي .
ارفض التفاهة وارفض أن يستغلك التافهون، واعلم أن السكوت والتجاهل يقتلهم ويطمس ظهورهم.. وأن انتقادك لهم وهجومك عليهم يعد بمثابة دعاية عكسية مثلها مثل الاهتمام والمتابعة كلاهما وجهان لعملة واحدة وهي الترويج أو الدعاية .
إذن التجاهل يؤدي الغرض .