مرحبا عزيزتي،
سأكتبُ لكِ نصا أصف فيه رجلا يمشي بلا أرجل على قلبه، يمزقه بكل خطوة يخطوها. الآهات الصادرة عنه نوتة موسيقية تعتبر فرصة ذهبية لعازف يبحث عن إلهام خوفا على وتره أن يصدأ من تراكم أتربة التجاهل. الوتر يعلن عن وجوده بالاهتزازية؛ أصوات رنانة عبثية. لا يكتمل المعنى إلا بألم يترجمه العازف عبر قوسه المصنوع بأوتار من قلبه. للألم لغة يفهما الموجعون فقط. الكتابة إليك تحتاج إلى ألم كبير، أبثُ منه حروفا وحيدة أحاول أن أشكل منها جملة لكي تفهمينني يا مدللة، هل تعرفين معنى إنسان يتألم ولا تخرج منه صرخة أو شكوى بها يعلن هو الآخر عن وجوده؟!
هل يصدق عقلك أن هذا الرجل يحمل على يديه الواهنتين عقلا بحجم الكرة الأرضية.. تخيلي أن كلما ازدحمت أفكاره داس على قلبه أكثر. ولما قرر أن يرمى عقله لم يقوَ على فعل هذا الأمر.. هذا المهجور لم يقدر أن يقع في جملة فعلية فاعلا لا مفعولا به: أقصد أنه مهجور.. مَتروك.. تتركه الأشياءُ دائما.
في اليوم الذي قرر عقله تركه علل أنه يستند على «حيطة مايلة»..
الغريب في الأمر أنه طفا على سطح الأرض محلقا بالسماء يرفرف بقلبه الممزق.. لكنه ما لبث بضع دقائق إلى أن وقع.
خبريني يا عزيزتي الحكيمة: كيف يطير إنسان بقلبه، ربما تقولين هو رجل فقد عقله، جُنّ أصلا، الطيران ليس مستحيلا بالنسبة له ولا تهمه بأي وسيلة يطير..
لكن هذا الرجل الذي تحسبينه مجنونا كان عاقلا لأنه عرف الكثير.
هذا الرجل الذي ترينه واقعا، هو في الأصل واقفا، رغم أنه لم يعد قادرا على المشي وإن حاول المشي تعثر مقاوما السقوط. وإن وقع لحظة يقف لا يترك لنفسه فرصة أن يقول: أنا سقطت أريد أن استريح اليوم عن الحركة.. عن المعركة.
وآه، إن ترك نفسه يسقط، سيقضي يومه نائما يحلم أنه يمشي خوفا من أن يسخر منه عدو شامتا: قلت لك يا واهم لن تستمر..
ستسألين في شفقة: من العدو حتى تقتلينه.
خبريني يا فتاة القوة بأي شيء ستقتلين: بالرِقة؟
خبريني أين ومتى تعلمتي القتل. أن تقتلي نفسا.. كيف تحاربينني.. لا تندهشي، لا تخافي إنني العدو.. عدو نفسي.
– خبرني أنتَ، كيف أقتل عدوكَ؟
– عدوي يقتل بالرِفقة.
رافقيني حتى نهاية الطريق، لا نهاية للطريق.. رافقيني إلى الأبدية، لا أبدية.. رافقيني حتى أموت، لا موت معك.. رافقيني حتى أحيا!
ها هو استيقظ من حلمه مرهقا من الركض، حلم أنه يهرول ليهتدي الوصول -لكن كل الشوارع التي جرى فيها كوحش بري يلحق بفريسة تحولت لمتاهة كبيرة فضاع، لمَ يرى هدفه كفريسة.. لمَ لا يكون حلمه صاحبا يشدد من أزره، يَشْركِه في أمره؟
ستتعجبين بأن هذا الرجل قرر يوما أن يولّى الأشياء ظهره ويمشي.. يمشي بعيدا جدا. ويا للعجب جاءته الأشياء تستغيثه أن يلتفت لها، ترجوه أن يستجيب! وحين استجاب محاولا الإمساك بها هربت كأنها لا تعرفه، كأنه لا يعرفها! هكذا خيل إليه؛ فهو لم يحاول أصلا. لم يعد قادرا على التشبث بشيء أو قلي أنه حسبه وهما فخاف. فتوهم أنه حاول حتى لا يتعبه اللوم يتبعه الألم في كل ذكرى يدعوها تقول أنني فرصة جئتك إليك فتركتني.
هذا الرجل الذي أحدثك عنه أصبح العدم وجوده..
لا معنى لكلامي عنه.. لا معنى لمحاولاتي على التلميح لك أنه يحتاج إلى الرِفقة.. والرِقة مع الرفقة.. هكذا تقتلين عدوي.. أقصد عدوه.. أو عدونا!
لا معنى أن أكتب لكِ نصا لا تقرأينه أصلا