بقلم/ سامح بسيوني
في ليلة من ليالي الخريف؛ جلست أحتسي فنجان قهوتي، وأتأمل نسيم العليل، وحركة رياح خفيفة تداعب أوراق الأشجار؛ فيتساقط بعضها،والبعض الآخر يأبى السقوط. وبدأت نسمات الفجر تهب من بعيد تعلن شروقًا جديدًا للحياة، وقطرات الندي تنزل علي أغصان الأشجار؛ فتتمايل فرحة بميلاد يوم جديد. ياله من مشهد رائع! تمتزج فيه الحقائق، وتنزاح عنه الستائر؛ فعندما يأتي فصل الخريف تكون النفس أهدأ بعد عناء صيف شديد؛ فهكذا الإنسان يشبه فصول العام في تطوراته، واختلافه.
فالإنسان يبدأ حياته كشجرة صغيرة تنمو نموًا سريعًا؛ فهو الطفل المدلل يلعب، ويلهو يبني بيوتًا علي شاطئ الرمال، فتأتي الأمواج العاتيه، فتهدمها فلا يصخب، ولا يغضب. ويبني عشه علي الأشجار، فتأتي الرياح، فتهدمها فلا يثور، ولا يندب. فهو المجاب له كل المطالب، لأنه هو الطفل المدلل بين أَبٍ عطوف، وأم حنون يقدمان له يد العون والنجاة. ثم ينتقل إلي مرحلة أخرى، وهي مرحلة الشباب، والقوة؛ تمتزج بتفكير عميق في مستقبل ملئ بالغموض، فينمو فيها الإنسان كنمو الأشجار في غابة عميقة. فالغابة تتمثل في حياة كبيرة مليئة بهمومها، واحزانها، وأفراحها، وسعادتها هكذا هي الحياة فسبحان الله! كان هو المدلل بالأمس القريب، أصبح الآن هو المسئول، ولكنها مسئولية تمتزج بالحكمة مرة؛ وأخرى تكون بشئ من الطيش، مقرونة بالسفة، والحماقة٠
ففريق يتقبل الحكمة، والآخر يتمرد؛ فهذا المتمرد يتمثل في ابن نوح- عليه السلام- ابنه رفض النصيحة، وتكبر فعصى كلام أبيه، ورفض أن يركب في سفينة الناجين، وفكر بعقله، وظن بأن الجبل سيكون له ملجأ، ونسي بأنه لا ملجأ، ولا منجأ إلا إلى الله، ولا حافظ إلا منه؛ فكانت عاقبته الغرق، والخسران. ياحسرتاه علي التكبر، والبطران؛ فأصبح كشجرة خبيثة أُجْتَثت من فوق الأرض مالها من قرار. وفريق آخر متماسك كشجرة تماسكت بأوراقها في ليلة شديدة الرياح، وهذا الفريق متمثل في ولد صالح ينقاد لأمر الله- عزوجل- عندما رآه أبوه يذبحه في المنام، فانطاع
لأمر لله. فكان الفداء من الله تعالى بأنه فُدِى بذبح عظيم من الجنة. أتدرون من الولد الصالح ؟أنه نبي الله إسماعيل، وأبوه هو الخليل إبراهيم- عليه السلام- فأصبح هذا الفريق كشجرة طيبة أصلها ثابت، وفرعها في السماء.
هكذا الإنسان أيامه كخريف من فصول الأعوام؛ يتساقط ورقة وراء ورقة حتي يصل إلي خريف عمره، فهو الآن بلغ من العمر الأربعين، فمنهم من يتعظ، ويعتبر ويعلم بأن محطته قد أوشكت فيتضرع إلي الله بأن يشكر نعمته، وأن يعمل صالحًا، رضاءً لله وأن يصلح له ذريته. ومنهم من يخسر عمره، وينزلق علي حافة الهاوية، فينغمس بالشهوات، والملذات، ويعود إلي الغي، والفساد، وكأنه شاب يعيش مراهقته فيصبح دخانًا في السماء لا قيمة له. أصبح الآن كشجرة في ليلة خرافيه، وقد تساقطت كل أوراقها فلم تصبح إلا جذوع نخل خاوية. ياله من مشهد يحتاج إلي تدبر، وتأمل!
أيها الغافل إلي متي الغفلة، وقد تساقط كثير من عمرك، وأصبحت جذرًا بلا أوراق مثمرة فتلك شجرة لا خير فيها. وتتوالى تساقط الأوراق في الخريف كما يتساقط العمر من شجرة حياتك. فتصل إلي مرحلة الشيخوخة، ويرجع الإنسان إلي ضعفه بعد قوةٍ كانت تملك كل الأركان؛ فأصبح يحتاج إلى من يعينه بعدما كان هو المعين. فسبحان الله العظيم الخالق من ضعف إلى قوة إلا ضعف! فتسقط ورقة وراء ورقة حتي لا يبقي منها شئ. فهو الذي جاء محمولًا إلي الدنيا سوف يرحل محمولًا إلي آخرته.
فهل من عبرة، وعظة من الدنيا الفانية. فالله-عز وجل- وصف الدنيا في قرآنه( وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ منَ السماء فَا خْتَلَطَ به نَبَاتُ الأَرْض فَأَصْبَحَ هَشيمًا تَذْرُوهٌ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَي كُلِّ شَئٍ مُّقْتَدِرًا).
فخذوا من تقلبات الزمان العبرة الحسنة، وتوبوا إلي ربكم واستغفروه حتي يعم النماء، والرخاء في ليلة شتائية فينزل فيها مطرًا فيملأ الأرض بركةً، وخيرًا. فيأتي الربيع بعدها مشرقًا، ومفرحًا، فتفتح فيه الخيرات، كما تتفتح فيه الزهور. فهل من أمل أن يأتي لنا الربيع؟ وقد ارتوت قلوبنا بالتوبة، و الغفران، والاستغفار، والاتعاظ بمتقلبات الأزمان، وتغاير الأعوام( وَتَلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النّاسِ) فهل من مدكر، ومعتبر للآيات؟