الدكتور /إسلام الشيخ
باديء ذي بدء… أتساءل عن تأثير الشعر تحديدًا وليس الأدب بشكل عام، لأننا نحفظ الأشعار التي نُغرَم بها ونُردِّدها، تمتصها عقولنا كسفنجة، وتستدعيها حينما تريد، ولأن الشعر الجميل مُكثّف جدًا إذا ما قورن بالنثر، فسطر شعريّ واحد يمكن أن يُعبَّر عن رحلة حياة كاملة. في المقابل من الصعب أن تحفظ صفحة من رواية أو حتى فقرة واحدة، وهذا السؤال عن تأثير الشعر خَطَر لي في واحدة من المرات الكثيرة التي غيّر فيها الشعر حياتي، وبالتالي أنا أعرف إجابتي، لكن تلك الدهشة التي شعرت بها عندما أدركت حجم تأثيره فيّ أربكتني، وأردت الاطمئنان إلى أنني لست وحدي في هذا.
تروح الدنيا وتجيء وأنا أقرأ كل ما تطوله يداي من أشعار خصوصًا بعد ما بدأت رحلتي في الكتابة، ما زلت أذكر سنتي الأولى في كلية الآداب.. وأنا أقرأ قصيدة لشاعرٍ لم أكن أعرف اسمه حينها (أمل دنقل). أذكر دموعي التي سالت وأنا أقرأ عن الفتاة (اليمامة) التي تتسربل بثياب الحداد وستُحرم دائمًا من أب يبتسم في عرسها وتعود له إذا أغضبها زوجها (قصيدة لا تصالح).
أذكر تضامني مع القضية الفلسطينية وأنا أقرأ «الموت على الأسفلت» للأبنودي، شعوري بالحياة الفوضوية الفاجومية التي لم يُكتب لي أن أعيشها وأنا أقرأ «أحمد فؤاد نجم». تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي في أزجال «بيرم التونسي». رهافة الإحساس بالبشر والحياة في «رباعيات جاهين»، وسريالية الحياة وسحرها مع «فؤاد حداد».
في عالمٍ قلِق متوتر مثل عالمنا، عشت كما قال المتنبي «على قلقٍ كأن الريح تحتي». وكثيرًا ما أُصبت بالإحباط وتساءلت عن جدوى السعي والعَمَل في دُنيا الحظ والوساطة والعلاقات، وسخطت في حنقٍ صبياني على ظُلم الحياة، في كل مرة أبدأ بالعمل على مشروع كتابة جديد أتساءل هل مِن أحدٍ سيقرأ هذا؟ هل سيؤثر في بعضهم أي تأثير؟ هل لمشقة الكتابة وقلقها وحياتي المُزدوجة تلك أي جدوى؟ ثم تبدأ أفكاري السوداء في التراكم تباعًا حتى أغرق في العتمة من جديد، لكن في كل مرة يمر رجل صعيدي يحمل قنديلًا يملأ الدنيا من حولنا وأسمعه يردد قائلًا:
فيه في قلب الظلم حتة نجمة بيضا… العمَل مش حاجة ضايعة في الهوا
أسير على أثر ضوئه مُرددًا وراءه «العمل مش حاجة ضايعة في الهوا»، وأُكمِلها في نفسي وأقول: «حتى وإن بدا غير ذلك». هكذا تعلقت دائمًا بقنديل الأبنودي وبُشرتِه، وكانت كلماته هي النجمة البيضاء في قلب الظلم.
وعندما أصبت بالاكتئاب وابتعدت تمامًا عن قراءة الشعر، ما أدركته بعد التعافي، بأن الشعر يزيدني فهمًا لذاتي، ويجعلني أدرك في نفسي ما لا أقدر على إدراكه وحدي، لذلك كما ابتعدت عن الشعر في اكتئابي عُدت له، وقد كشف لي الشعر حقيقة مشاعري، وأسباب تعاستي، وكان عاملًا مهمًا في شفائي من الاكتئاب.
وأذكر جيدًا اللحظة التي قررت فيها كتابة الشعر، كُنت آنذاك في العشرين من عمري وأقرأ لـ«بيرم التونسي»:
ليه فرشى عريان… وأنا منجّد مراتبكم
ليه بيتي خربان… وأنا نجّار دواليبكم
هي كده قسمتي… الله يحاسبكم
ورغم أن لبيرم أشعاراً أجمل من هذه بكثير، فإنني لا أنسى تلك اللحظة، حينها فكَّرت في أنني أريد أن أكتب شعرًا مثل هذا، لكنني لا أخفيك قولًا أنني أخاف من تأثير الشعر عليّ. الشعر يُحررك من هواجسك ومخاوفك أحيانًا كثيرة، تحديدًا عندما تُصدَّقه بكل كيانك كأنه هو الواقع فعلًا، أتذكر مروري بعلاقة عاطفية محتومة بالفشل (نظرًا للظروف وليس بناءً على رغبتنا) وكانت قد انتهت بالفعل حتى قرأت قصيدة «أحلام الفارس القديم» لـ «صلاح عبد الصبور» حيث يقول في أحد مقاطعها:
لو أننا كنا بخَيْمتين جارتينْ
من شرفةٍ واحدةٍ مطلعُنا
في غيمةٍ واحدةٍ مضجعُنا
نضيء للعشّاق وحدهم وللمسافرينْ
نحو ديارِ العشقِ والمحبّة
وللحزانى الساهرين الحافظين مَوثقَ الأحبّة
قرأت هذا المقطع وتساءلت لماذا لا تكون الحياة بهذه البساطة؟ شعرت بقوة هائلة وبأننا نستطيع أن نواجه كل الظروف وننتصر عليها، ولا يمكن لنا أن ننتهي بهذا الشكل اليائس، وبالطبع- كما تتوقع- انتهت بشكل أكثر يأسًا. وهكذا يعاودني فؤاد حدّاد الذي أشعر كأنه يتحدث إليّ مباشرة عندما يقول:
قالولي طير من قلب والدك طار
ما علّمكشي يا ولد تختار
يا إمّا تظلم حد يا نفسك
ف الدنيا ما بينفعش الاستهتار
حول المعنى البديهي للحب فإن الشعر كان بمثابة إضاءات جديدة لواقعِي المعهود، كأنه يضيف معنى جديد لكل ما هو يوميّ وعادي، وأكثر ما أثّر بي من الشعر هو قول أمل دنقل:
«كيف تنظرُ في عيني امرأة… أنت تعرفُ أنك لا تستطيعُ حمايتها».
هذا المقطع كان مُثوّر لي أكثر من كل القصيدة على جمالِها طبعًا، فهو يصف احتياج الرجل الطبيعي للشعور بأنه يستطيع أن يحمي منْ يحب، هذا المعنى البديهي يغيب عن ذهن الإنسان كثيرًا، فالثورة من أجل قيم العدالة والحرية عمل عظيم، لكنها تحتاج إلى دافعٍ حميمي لصيق برغبة الإنسان البسيطة في أن يكون «رجلًا» يستطيع حماية منْ يحب، وهذا ينطبق على الحبيبة وعلى الوطن في آنٍ واحد.
هذا السطر من الشعر يدفع قارئه للسؤال عن ماهية الحب ومعناه، وهو سؤال يجب أن يُعنى به كل البشر.
أن الشعر لا يغير (مادياً) في الحياة، فهو لا ينقذ سوى أرواحنا من الأوهام. فهو أيضاً لا يستطيع أن يصد الموت عنا. إنه فحسب يجعل الموت سهلاً مثل الحياة. الشعر، يعني أننا أحرار بمعزل عن قانون الأقدار او كما يقول الشابي:
.ياشعر أنت فم الشعور، وصرخة الروح الكئيب
ياشعر أنت صدى نحيب القلب، والصب الغريب
ربما في وسط هذا العدم يبقى الشعر وحده بالنسبة لي ركناً من أركان كينونتي ووجودي. والملاذ الآمن للنفس، والنور الذي يشرق في أرواحنا كلما توحش العالم وازداد عتمة وقسوة
الشعر سلحفاة تعلمني البطء”، إذ أشعر بالعجز عن مواكبة الماكينة الهائلة للكلمات والصور التي تمر أمامي على شاشة الهاتف أو الكمبيوتر.
وما زلت أعتقد أن الشعر سيظل دائماً ذا جدوى للشعراء وللإنسانية في كل الأوقات العادية وقد تزداد جدواه أكثر في الأزمات الكبرى كتلك التي نعيشها اليوم؛ فهو إحدى طرق المقاومة للفناء المحيط من كل جانب، ويمكننا من اكتشاف تلك الندب التي تمتلئ بها الروح. وهو أيضاً الرفيق الذي لا يخذلنا أبداً في أوقات الوحدة. أو ليست الحياة تتكون أصلاً من تلك اللحظات الصغيرة من الشعور بالوحدة؟! كما يقول رولان بارت في كتابه المهم “الغرفة المضيئة”.