القاهرية
العالم بين يديك

السنت الضائع

130

بقلم/ د. محمد منصور

لمع من بعيد فجذبني بريقه، أشعة الشمس الساقطة عليه أكسبته بريقاً يخطف الأبصار.. كدت أمر عليه مكتفياً بالنظر ناحيته في رثاء، لكنني في اللحظة الأخيرة قبل اجتيازه انحنيت والتقطته من عرض الطريق غير آبه بآلام أسفل الظهر التي قد تدهمني وقد تعكر صفو يومي.
كنت سأقلد الأمريكان الذين يمرون عادة بهذا السنت معدوم القيمة دون التفات، لا يكلفون أنفسهم عبء الانحناء لشئ بلا قيمة، السنت هو جزء من مائة جزء من الدولار وهو أحد ست عملات معدنية أمريكية، الدولار ونصف الدولار وربع الدولار والعشرة سنت واسمها “دايم” ثم الخمس سنتات وتسمى ” نيكل” ثم السنت المسكين الذي لا يأبه له أحد وهو الوحيد الأحمر اللون وعليه صورة الرئيس الأمريكي محرر العبيد ابراهام لينكولن، لكن الأهم هو ذلك النقش للعبارة البديعة التي تخلو منها أي عملة أخرى في العالم، ” نحن نثق في الله “In God we trust “.
ورغم كل ميزات السنت البادية في بريقه ولمعانه والعبارة المنقوشة عليه وصورة الرئيس العظيم الذي خاض حرباً أهلية طاحنة من أجل تحرير الإنسان المستعبد في كل العالم وهو ما لم تقدر عليه كل الأديان الوضعية والسماوية ثم دفع حياته بعد ذلك ثمناً لمبادئه .
رغم كل هذا فإن الأمريكي لا يلتقطه إذا وجده ملقى على الأرض لتدني قيمته الشرائية، إن كل قيمته أنه أساس التقييم الذي يبدأ من عنده العد .
بعض الأمريكيين يتشاءمون منه فيلقون به بعيداً أو يقذفون به في عرض الشارع إذا صادفهم ضمن باقي حساب، هنا تحديداً مربط الفرس، هنا يكمن السبب الذي جعلني أنحني لالتقاطه من عرض الطريق وأتحمل آلام الظهر وخطر الانحناء، إنها المفاهيم التي تربينا عليها صغاراً ورافقتنا رحلة حياتنا ولا يفهمها الأمريكان ولا غيرهم من شعوب الأرض .
مفاهيم تجعلنا ننحني لنلتقط كسرة خبز عفنة من وسط الطريق فنقبلها ونضعها بجوار الحائط كي لا تدوسها الأقدام، وهي ذات المفاهيم التي تجعلنا لا ننظر إلى القيمة الشرائية للعملة فنحتقرها إن تدنت ونجري نحوها إن كانت مرتفعة القيمة، إننا نتعامل مع أصل الأشياء بقطع النظر عن قيمتها، فكما أن قطعة الخبز العفنة هي أصل الطعام الذي هو رزق من الله فكذلك المليم والسنت والبنس وهي العملات التي لا تشتري شيئاً، ولكنها مع ذلك أصل النقود .
إن رمزية الأشياء قد تكون أهم من قيمتها الفعلية.
ذلك هو ما أوحى إلي به ذلك السنت الضائع .

قد يعجبك ايضا
تعليقات