د _ عيد علي
في قلب المواجهة المستعرة بين إيران وإسرائيل، تقف العقائد الدينية كلاعب خفيّ لكنه فعّال، يمنح الصراع أبعادًا أعمق من مجرد نزاع عسكري أو سياسي. فالمعركة ليست فقط على الأرض أو في الفضاء السيبراني، بل أيضًا في الوعي الجمعي والروايات الدينية التي يُعاد إحياؤها وربطها بالواقع المعاش.
منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، تبنّت إيران خطابًا دينيًا صريحًا، يقوم على فكرة أن الإسلام ليس دينًا فرديًا فقط، بل نظام متكامل ينظّم السياسة والمجتمع والدولة. وقد انعكست هذه الرؤية بوضوح في بنية الحرس الثوري الإيراني، الذي تبنّى خطابًا عقائديًا يربط بين العمل العسكري والتمهيد لظهور “المهدي المنتظر” — الشخصية الموعودة في التراث الإسلامي، والتي يُعتقد أنها ستقود العالم إلى العدل بعد أن يعمّه الجور.
فرق الحرس الثوري تحمل أسماءً ذات دلالات روحية مثل “وحدة خاتم الأنبياء” و”وحدة الإمام الحسين”، بينما تشير وثائقهم الداخلية إلى أن جزءًا من رسالتهم هو تهيئة الظروف لعودة الإمام المهدي، وهو ما ينعكس في تعزيز ترسانة إيران الصاروخية وتوسيع نفوذها الإقليمي كجزء من هذه “الرسالة المقدسة”.
كما تتقاطع هذه الرؤية مع الإيمان بعودة المسيح الذي سيشارك المهدي المنتظر في نشر العدل، وهي عقيدة يشترك فيها السنة والشيعة، لكن التشيع يرى أن إقامة “التمهيد” لهذا الظهور تقتضي إعدادًا عسكريًا قويًا وتحركًا سياسيًا عالميًا.
وفي هذا السياق، صرّح المرشد الإيراني علي خامنئي قائلاً:
“نحن لا ننتظر ظهور الإمام فحسب، بل نتحرك لتمهيد الطريق له عبر إقامة حكومة العدل الإلهي”.
إسرائيل والخوف من لعنة التاريخ
أما في إسرائيل، فثمة روايات دينية موازية تُشكّل وعيًا جمعيًا يغذّي القلق الوجودي، خاصة ما يُعرف بـ”لعنة العقد الثامن”، وهي عقيدة تستند إلى التاريخ اليهودي القديم، الذي يشير إلى أن الدول اليهودية السابقة لم تصمد لأكثر من 80 عامًا قبل أن تنهار.
ومع بلوغ الدولة العبرية عامها السابع والسبعين، بدأ هذا “الشبح التاريخي” يُلقي بظلاله على الأوساط الدينية وحتى السياسية، لدرجة أن رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينيت حذّر صراحة من هذا المصير بقوله:
“تفككت دولتنا مرتين في الماضي عند العقد الثامن. نحن الآن نعيش تجربتنا الثالثة.. والتحدي هو: هل سننجح في الحفاظ عليها؟”
التيار الديني الصهيوني، الذي يمثل شريحة مؤثرة في السياسة الإسرائيلية، يقرأ الصراع مع إيران وخصوم آخرين من منظور توراتي، يربط المعارك الراهنة بملحمة “جوج وماجوج” أو “يوم الرب” كما يُسمى في النصوص الدينية، حيث تتحدد فيها مصائر الأمم ويعود المسيح المنتظر بحسب الإيمان اليهودي.
المواجهة المستترة: حين تحكم النبوءات معادلات الحرب
لا تقف آثار هذه العقائد عند حدود الإيمان الشخصي أو التوجه الروحي، بل تنعكس على صناعة القرار، وتؤثر في تبرير السياسات الخارجية والداخلية. فحين تُربط المعارك بنبوءات مقدسة، تُصبح التضحية مشروعة، والتصعيد مبررًا، والحوار صعبًا.
إن الصراع بين إيران وإسرائيل لا يُختزل في مواجهة أمنية أو استراتيجية، بل يمتد إلى مستوى “المصير”، حيث يرى كل طرف نفسه في موقع تاريخي مقدّر، يسعى خلاله لتحقيق وعد إلهي أو تجنّب لعنة مقدسة. وهذا ما يجعل أي تصعيد بينهما أكثر قابلية للانفجار، وأي تهدئة أكثر هشاشة من أن تصمد أمام قوة العقيدة.
إلى أين يمضي هذا الصراع؟
السؤال المطروح الآن: إلى أي مدى يمكن أن تتحول هذه الرؤى العقائدية إلى محرّك فعلي لمعارك كبرى؟ وهل تُستغل النبوءات كمجرد أداة تعبئة شعبية، أم أنها أصبحت بالفعل محددًا رئيسيًا في صياغة قرارات الحرب والسلام؟
في ظل تزايد الخطاب الديني في كلا الطرفين، واستحضار الرموز والنصوص في خطاب القادة، يبدو أن “الغيبيات” لم تعد بعيدة عن السياسة، بل باتت في قلبها. وهذا ما يفرض على المجتمع الدولي قراءة الصراع بعيون مختلفة: لا تكتفي بفهم المصالح، بل تُدرك عمق العقيدة التي تحرّك البنادق.
