القاهرية
العالم بين يديك

القوة التي لا يراها أحد

57

بقلم: د/ بسمة خالد

أحيانًا لا نعرف كم نحن أقوياء، إلا عندما نُجبر على أن نكون كذلك. حين تسقط فجأة في عمق ما لم تخطط له، وتنهض، لا لأنك بخير، إنما لأنك قررت ألا تبقى في القاع. هذه اللحظات، رغم قسوتها، هي التي تشكل جوهر القوة النفسية. لكنها لا تُصنع من لحظة واحدة، إنما من تراكم اختيارات صغيرة، من تفاصيل لا يراها أحد، من قرارات صامتة تأخذها مع نفسك دون إعلان.

القوة الحقيقية لا تبدأ من إنكار الضعف، وإنما من الاعتراف به. حين تسمح لنفسك بالشعور، بالبكاء، بالحديث عمّا يؤلمك، فأنت لا تضعف، إنما تُفرغ ما يعوقك عن الاستمرار. أن تكون قويًا لا يعني أن تكون صلبًا طوال الوقت، إنما أن تعرف كيف تعود إلى توازنك في كل مرة تميل فيها الكفة نحو الانهيار. في لحظات الهشاشة، يُعاد تشكيلك بطريقة لا يُدركها من لم يختبرها.

ليس كل صراع خارجي يستحق أن يُحدث فوضى في داخلك. مع الوقت، تُدرك أن التوازن لا يأتي من السيطرة على كل ما يحدث، إنما من طريقة استجابتك له. مرّن عقلك على التمييز بين ما يستحق ردّك وما يستحق صمتك. هذا لا يحدث فجأة، لكنه يبدأ بخطوات بسيطة: التنفس العميق، التأمل لبضع دقائق، تمرين امتنان صغير، أو حتى كتابة مشاعرك في هدوء آخر اليوم. هذه التفاصيل اليومية لا تُغيّر العالم، لكنها تغيّرك أنت، وتمنحك أرضًا صلبة تقف عليها مهما اهتزّت الظروف.

كل تجربة تمر بها تغيّرك، وهذا طبيعي. لست مُلزمًا بأن تبقى كما كنت قبل الألم، ولا أن تثبت شيئًا لأحد. القوة النفسية تعني أن تمنح نفسك الإذن بأن تتغير، أن تُعيد ترتيب أولوياتك، أن تختار السلام حتى لو بدوت مختلفًا عمّا يتوقعه الآخرون. لا أحد يعرف ما الذي مررت به، ولا أحد له الحق في الحكم على صورتك الجديدة.

ربما لم تنتبه، لكنك مررت بلحظات كان بإمكانك أن تستسلم فيها، ولم تفعل. اخترت أن تصمد، أن تعالج، أن تحاول، أن تسامح، أو على الأقل أن تصمت بدلاً من الانفجار. كل هذه اختيارات صغيرة، لكنها أكبر بكثير مما تبدو. هي التي تصنع القوة النفسية الحقيقية، تلك التي لا تُرى، لكنها تُشعرك بأنك بخير حتى وسط العاصفة.

القوة النفسية لا تحتاج إعلانًا. هي شيء تعرفه في أعماقك، شيء لا يمكن شرحه، لكنه يُلمس في طريقة وقوفك، حديثك، صمتك، وحتى في الطريقة التي تنام بها مرتاحًا، لأنك لم تخن نفسك. حين تزرع بداخلك هذه المساحة، وتعود إليها كلما شعرت بأن الحياة تُثقلك، ستجد نفسك أكثر اتزانًا، أكثر وعيًا، وأكثر استعدادًا لما هو قادم.

قد يعجبك ايضا
تعليقات