بقلم: ناصر السلاموني
أدرك الشعب المصري أنه مستهدف بكل طوائفه، فوقف بكل قوته أمام الهجوم الضاري المتمثل في القوة الناعمة التي استطاع عدوه أن ينفذ من خلالها إلى المجتمع، حتى وجدنا الرئيس يعلن ذلك مدافعاً عن قيم ومبادئ المجتمع.
فلم تشهد مصر في تاريخها الحديث هجمة منظمة على هويتها وتقاليدها ودينها كما نشهدها اليوم. لقد تسلل الفساد إلينا متنكرًا في ثياب الإبداع، وارتدى الانحلال عباءة الفن، حتى اختلطت المفاهيم، وغُيّبت البوصلة الأخلاقية، وأصبح من يتمسّك بالقيم يُتَّهَم بالرجعية والتشدد!
لقد أدرك أعداء الأمة أن السبيل الأنجع لهدمها لا يكون بالسلاح فقط، بل بتحطيم منظومة القدوة والتعليم والأخلاق والدين.
وقد بدأ ذلك حين تم تشويه صورة الأب والأم، والسخرية من المعلّم، والنَّيل من رجل الدين، في أعمال فنية تبدو بريئة في ظاهرها، لكنها تحمل في طياتها خطة ممنهجة لهدم أعمدة المجتمع.
ثم انتقلوا إلى ساحة الفن والغناء، فشوَّهوا الذوق العام، ورفعوا من شأن أصوات بلا مضمون، تروج لانفلات الأخلاق، وقطيعة الأرحام، وتحرض على العنف والخيانة، بينما غُيِّبت المعاني السامية للفن الراقي، وأصبح السوق مفتوحًا لمن يدفع أكثر، لا لمن يُبدع أو يُهذِّب أو يوجّه.
واشتد الخطر حين تم تصدير قدوات زائفة إلى شبابنا، لا تمتّ لقيمنا أو ديننا بصلة، بل تُقدَّم على أنها نماذج للنجاح والحرية والجاذبية. وأصبح الشاب المسلم يرى بطله في شخصيات غربية، يُقلد مظهرها وسلوكها بلا وعي، ويُصوَّر له أنهم النموذج المثالي، رغم ما تحمله هذه النماذج من أفكار وسلوكيات لا تتسق مع هويتنا.
وفي خضم هذا التيه، جاء دور وسائل التواصل الاجتماعي لتكمل المشهد؛ فصار الشباب يغوصون في ساعات من التشتت، لا يخرجون منها إلا إلى عوالم أكثر خطورة: من إدمان المخدرات، إلى الانغماس في الألعاب الإلكترونية، إلى التعلق المفرط بالرياضة والفن على حساب بناء الذات والمعرفة.
بل بلغ الأمر ذروته حين تبدّلت المفاهيم، فظهر من يُصنفون كمطربين أو مؤثرين وهم لا يملكون من الفن شيئًا، ويرتدون ملابس لا تليق، ويتباهون بسلوكيات شاذة، وسط تصفيق بعض الجماهير في مشهد يثير القلق على حاضرنا ومستقبلنا.
فهل هذا هو الفن؟
الفن ليس مخالفة للفطرة والعُرف، ولا هو بلطجة أو تعرٍّ، حتى وإن كان يزعم تصوير الواقع.
بل الفن الحقيقي هو إدراك عميق لأبعاد بصرية وسمعية وصوتية وذهنية وحركية، تميز صاحب الموهبة عن غيره.
الفن هو أن يرسم الرسام بالحس، ويغني المطرب بالشعور، ويعزف العازف بالأمل، ويكتب الأديب بالكلمة الصادقة، ويبدع الرياضي بروح الجمال.
الجميع يرسم لوحة الحياة بأدواته، لكن القيمة تكمن في الرسالة، في المضمون، وفي التأثير الذي يُخلّفه في النفوس.
إن الفن حين يرتبط بالقيم، يمكن أن يكون رسالة سامية، بل عبادة إذا أخلصنا النية.
أما حين ينفصل عن الأخلاق، فإنه يتحول إلى أداة هدم لا بناء.
ما نشهده اليوم هو انقلاب حقيقي في المعايير:
أصبح الزاني بطلاً، والخائن قدوة، والسارق نجمًا، وذو المبادئ متخلفًا!
وصار الحديث عن الأخلاق يُعد تخلّفًا، والمطالبة بفن راقٍ تُعد رجعية!
فما العمل؟ هل نستسلم أم نواجه؟الجواب واضح: لا بد من المواجهة الواعية، لا بالمنع والقمع، بل بإحياء البديل.
نحتاج إلى دعم الفن الهادف، وتشجيع القدوة الصالحة، وبثّ الوعي في البيوت والمدارس والإعلام.
علينا أن نعيد صياغة المفاهيم، ونؤكد أن الفن لا يتناقض مع الدين، بل يمكن أن يسمو به.
وهذا ما تنبهت له الدولة المصرية في السنوات الأخيرة، حين أعادت إنتاج أعمال درامية ووثائقية ومسرحية تحمل مضامين وطنية وقيمية، تجسد بطولات الجيش والشرطة، وتكرّم النماذج المُشرفة من أبناء المجتمع، وتُضيء على قضايا مجتمعية حساسة بطريقة واعية ومؤثرة.
وقد رأينا مسلسلات تتناول ملفات الإرهاب والتضحية والوطنية، وأفلامًا تُبرز بطولات حقيقية من واقعنا، ومسرحيات تعيد صياغة الوعي بروح مصرية أصيلة.
كما تم توجيه دعم ملموس لقطاعات الإنتاج الفني الجاد، وفتح المجال أمام كتّاب ومخرجين مخلصين، لإحياء رسالة الفن كقوة ناعمة في بناء الوطن.
لقد كانت هذه الخطوة بمثابة رسالة إلى الداخل والخارج، بأن مصر لا تقف مكتوفة الأيدي أمام موجات الانحلال، بل تقاوم بالفن والفكر والمبادرة.
ومع ذلك، لا يزال الطريق طويلاً، ولا يمكن للدولة أن تخوض المعركة وحدها، فالمجتمع بكل مكوناته مطالب بأن يصطفّ في هذه المواجهة، وأن يستعيد وعيه، ويسترد فنه، ويُعلي من قيمه، لأن المعركة اليوم ليست ضد الفن، بل ضد التزييف والانحراف.
