محمد زغله
في زقاق ضيّق من أزقة خان الخليلي، وعلى بُعد خطوات من مسجد الحسين، تقف قهوة “الفيشاوي” شامخة كشاهد على قرنين من الزمان، حافظة لتاريخ من الحكايات والثقافة والفن والسياسة. هي ليست مجرد مقهى، بل معلم تراثي وذاكرة نابضة للقاهرة القديمة، ارتادها كبار الكتّاب والمفكرين والمغنّين، وعلى رأسهم الأديب العالمي نجيب محفوظ.
أسّس القهوة الحاج فهمي الفيشاوي قبل أكثر من 200 عام، ببداية متواضعة تمثّلت في “ترابيزة خشب” كان يُقدّم عليها المشروبات لزوار الحي، وسرعان ما تحوّلت تلك الترابيزة إلى مقهى عريق يتوسّع شيئًا فشيئًا حتى أصبح اسمًا لامعًا في سماء المقاهي الثقافية.
لكن الحزن غلب المؤسس. فبعد قرارات حكومية قضت بهدم جزء كبير من القهوة لتطوير منطقة خان الخليلي، تقلّصت مساحتها من 400 متر إلى 150 مترًا فقط. لم يتحمّل الحاج فهمي وقع الصدمة، وتوفّي كمدًا بعد رحلة كفاح طويلة حوّلت حُلمه البسيط إلى تراث خالد.
تتكوّن القهوة من ثلاثة أقسام، لكل منها طابعه وسحره. الغرفة الأولى تُعرف بـ”أوضة البوسفور”، وتتميّز بديكورها الخشبي المطعّم بالأبنوس ومقتنياتها من الفضة والكريستال، وكانت مخصصة للملك فاروق وضيوفه. أما الغرفة الثانية، “التحفة”، فزيّنها المؤسس بالصدف والخشب المزخرف والعاج، وكانت ملتقى الفنانين. بينما الغرفة الثالثة، “القافية”، كانت مسرحًا للعبة فكاهية يُظهر فيها المشاركون سرعة البديهة وخفة الدم، خاصة في ليالي رمضان، لكنها مغلقة حاليًا حفاظًا على مقتنياتها النادرة، من بينها مرآة وساعة حائط وراديو أثري وثريا تعود لعام 1800.
نجيب محفوظ، الذي ارتبط اسمه ارتباطًا وثيقًا بالقهوة، كان من روّادها الدائمين، وكتب على مقاعدها ثلاثيته الشهيرة: “بين القصرين”، “قصر الشوق”، و”السكرية”.
ولعلّ أفضل وقت لزيارة قهوة الفيشاوي اليوم هو قبيل الفجر، حين تعود لهدوئها وسحرها القديم، بعيدًا عن زحام الليل وضجيج السائحين. هناك، وبين جدران القهوة العتيقة، يمكن للزائر أن يتذوّق الشاي الذي اشتهرت به، ويشعر وكأنه يسافر عبر الزمن.
