.كتب/ حمادة توفيق أبوالحسن.
– إنه الظل.
هكذا قالَ وعيناه جاحظتانِ من الخوفِ، وقلبه يعلو ويهبطُ بوتيرةٍ سريعةٍ، نظرَ إليَّ بعينينِ حائرتينِ ذاهلتينِ، عينينِ قد عشّشَ فيهما رعبٌ لا يُطاقُ، ونالَ من ألقهما بؤسٌ لا مثيلَ له ولا شبيه !
– أيُّ ظل ؟ !!
– استدارَ، مضى ينظرُ يمنةً ويسرةً كالخائفِ الوجِل، اتسعتْ عيناه أكثرَ فأكثرَ، ثم اقتربَ مني حتى استشعرتُ حرارةَ أنفاسهِ ونالت مني رائحةُ ملابسهِ الرثّةِ الكريهة.
– الجنية !!
قلتُ في إصرارٍ وتحدٍّ هذه المرةَ : لا أفهم شيئاً، فقط أجبني، لماذا رماكَ الناسُ بالجنونِ وقد كنتَ أعقلهم ؟ ولماذا صرتَ منبوذاً طريداً بعدَ أن كنتَ طبيباً مشهوراً يُشارُ إليه بالبنان ؟ أجبْ وبلا مراوغة.
ابتسمَ ابتسامةً مرعبةً بثّتْ في نفسي هلعاً وفزعاً، ثم أردفَ :
كنتُ أحبها حتى النخاعِ، حباً لو وُزعَ على المحبينَ على تلك البسيطةِ لكفاهم، لم تكنْ مجردَ امرأةٍ تزوجتها فحسب، كانت صديقتي في الجامعةِ، ثم استحالتْ صداقتنا إلى حبٍّ لم يزدْ مع مرِّ الأيامِ وكرِّ الليالي إلا قوةً ومِضاءً، واجهنا الصعابَ معاً فانتصرنا عليها انتصاراً مؤزّراً، وبفضلِها وبفضلِ حبها لي ووقوفها إلى جانبي أصبحتُ طبيباً ملءَ الأسماعِ والأبصارِ، وعُرفتْ للعامةِ والخاصةِ، وذاعَ صيتي في جميعِ الأصقاع !
توقف، فقلت في حماسةٍ كبيرةٍ : أكمل، أنا أسمعك ..
– انتهت القصة !
– ماذا ؟
– القصةُ سُرعانَ ما بدأت وسُرعانَ ما انتهت، وانتهى معها كلُّ شيءٍ.
– كيف ؟
– الظلُّ.
– أيُّ ظلٍّ ؟
قال وعيناه تلمعانِ :
– لا أنسى أبداً ما حدث، الخميسَ الأولَ من شهرِ مايو 2010، لا زلتُ أذكرُ تفاصيلَ ما كان، دِقها وجُلَّها، هي سعيدةٌ جذلانةٌ، وأنا فرِحٌ بسّامُ الثنايا منبسطُ الأسارير، ها هي البهجةُ تعمُّ المكانَ كله، أداعبها فتضحكُ ضحكةً رنانةً تهُزُّ المكانَ هزّاً، تدنو مني لألثمَ شفتيها، ثم تختبئُ بين أحضاني، فأجدني أربّتُ على ظهرها كطفلةٍ صغيرةٍ في أحضانٍ أبٍ حنون، كانتْ سعادتنا غامرةً وفرحتنا لا حدودَ لها، ومرّ اليومُ سريعاً كساعةٍ أو بعضِ ساعة، وسرعانَ ما أقبلَ الليلُ بِنسائمهِ العِذاب، أقبلَ ونحن منتشيانِ فرحانِ مقبلانِ على الحياةِ، لا يُكدِّرُ صفونا كدَرٌ ولا يُنغصُ عيشنا همٌّ ولا ألمٌ ..
وبينما نحن معاً في الصالةِ نشاهدُ التلفازَ قالت : ظمآنة !
فقمتُ من مكاني قاصداً المطبخَ لأحضرَ لها ماءاً تشربه، فلما دخلتُ كانت المفاجأة.
طفقَ يسعلُ بقوةٍ حتى ترقرتْ من عينيه دموعٌ حارة، دنى مني حتى كادَ أن يلتحمَ بي، فلما لمحَ في عينيَّ الرغبةَ المُلحّةَ لمعرفةِ ما حدث، قال وقد سكنَ روعه وهدأت حدهُ سُعاله :
– دخلتُ المطبخَ بعدما تركتها في الصالة وحدها، فإذا بي أراها في المطبخِ تفتحُ بابَ الثلاجةِ قبلي، كان وجهها مقابلاً للثلاجةِ وظهرها لي، نفسُ الملابسِ والطولِ، بل ونفسُ الشعرِ الفحمي الطويلِ المنسدلِ على ظهرها.
استولتْ عليّ الدهشةُ وسرتْ في جسدي قشعريرةٌ باردةٌ وجدتُّ أثرها في كلِّ مكان فيه، تذكرتُ أنني تركتها في الصالةِ فبلغَ بي الرعبُ مداه، وما زادَ الأمرَ سوءاً أنها لم تكن امرأةً طبيعيةً كالنساءِ، إطلاقاً.
– كيف ؟ ماذا تقصد ؟
– كانت ظلاً، مجردَ ظلٍّ ..
– فماذا فعلت إذن ؟
– استرقتُ النظرَ إلى الصالةِ فأحسستُ بوجودها هناك، ثم نظرتُ إلى الظلِّ مرةً أخرى، نفسُ هيئةِ زوجتي تماماً، صورةٌ مماثلةٌ ومطابقةٌ لها، وفجأة أغلقتْ بابَ الثلاجةِ في هدوءٍ تامٍ ثم استدارت إليَّ، نظرتُ في وجهها وليتني لم أفعلْ.
– ماذا رأيتَ ؟
– وجهَ زوجتي لكن بملامحَ بشعةٍ، كانت عيناها منزوعتينِ من مكانهما، رأيتُ بدلَ عينيها تجويفينِ أسودينِ واسعينِ يسيلُ منهما على وجهها مسحوقٌ أسودٌ كالرمادِ، أما فمها كانَ مفتوحاً تماماً لكن بلا أيةِ أسنانٍ على الإطلاق، وكان يخرجُ منه ما يُشبه الدخانَ الأسودَ، جعلتْ تُحملقُ فيّ غيرَ آبهةٍ بالرعبِ والفزعِ الذين بلغا بيَ حدّاً بعيداً.
– حبيبي !!
نظرتُ إلى الخلفِ سريعاً، كانت زوجتي واقفةً مندهشةً تنظرُ إليَّ وفي عينيها عشراتُ الأسئلة !
– ماذا أخرك ؟
أعدتُّ النظرَ إلى الظلِّ فلم أرَه، لقد اختفى تماماً وتلاشى فكأنْ لم يكن، دبّ الخوفُ في قلبي مجدداً فأمسكَ بتلابيبي، لم أستطع التنفسَ، ثقلت بي قدمايَ فلم أحتملْ الوقوفَ، تهاويتُ تتلقّفني الأرضُ وأنا في ذهولٍ تام، دنت مني فقالت في قلقٍ بالغٍ : مالك ؟ ماذا بك ؟
جعلتُ أتراجعُ بظهري إلى الخلف، أهزُّ رأسي في اندهاشٍ وخوف، بينما هي حائرةٌ لا تَعرفُ ما بي ..
جعلَ ينظرُ حوله خائفاً ثم قال : هذه هي القصةُ بلا زيادةٍ ولا نُقصان.
– قلت : فهل تكررَ الأمرُ معك فيما بعد ؟
أجاب : طاردني الظلُّ بعدها كلّ ليلةٍ، ما اختبأتُ منه في مكانٍ إلا تبدّى لي أبشعَ وأفظعَ مما كان، كنت وحيداً بعدما تركتني زوجتي، وحيداً مع هلاوسي ومخاوفي، مع الظلِّ اللعين !
– ولماذا تركتكَ زوجتك ؟
– لأنني كنتُ دائمَ التغيِّرِ للأسوأ، ما نظرتُ إليها إلا تذكرتُ الظلَّ الشبيهَ بها، فجزعتْ نفسي أيّما جزعٍ، عرضت عليّ كثيراً أن أذهبَ إلى طبيبٍ نفسيٍّ بحثاً عن حلّ ناجعٍ لمآساتي، لكني كنتُ أرفضُ في تعنتٍ كبيرٍ وإصرارٍ عجيبٍ، فلما ضاقت بي ذرعاً تركتني لحالي ولجأت إلى بيتِ أبيها، خصوصاً بعدما بدرتْ مني محاولاتٌ جمةٌ لخنقها.
– خنقها ؟ هل حاولت أن تخنقها ؟
جلسَ القرفصاءَ ليريحَ قدميهِ من عناءِ المثولِ ثم أجابَ :
– أكثرَ من مرة، لكني لم أكن لأفعلَ هذا من تلقاءِ نفسي، على الإطلاق.
قلت : الظلِّ ؟
– نعم، كان يأمرني دائماً بالتخلصِ منها، ويعدني إن فعلتُ أن يتوقفَ عن إخافتي وبثِّ الرعبِ في نفسي.
وقفَ في هدوء وأردف : أتعلمُ شيئاً ؟ هو خلفك الآنَ !!
استولى عليّ الخوفُ من كلامه، لم أدرِ ماذا أفعلُ أو ماذا أقولُ، فولّيتُ مُدبراً، بينما جعل هو ينظرُ إليّ مُقهقهاً ضاحكاً وهو يقول : لن يتركك، لن يتركك، مرحباً بك معنا في عالمِ المجانين .
