القاهرية
العالم بين يديك

عندما تخدعنا المظاهر: بين صلاح الظاهر وفساد الباطن

66

د/حمدان محمد
لطالما سمعنا عن أشخاص عاشوا بيننا بسمعة طيبة، يصلون ويصومون، يبتسمون في وجوه الناس، ويظهرون الخير في سلوكهم، لكن عندما يغادرون الدنيا، ينكشف حالهم على غير ما كنا نتصور. ربما نجد في سيرتهم ما يصدمنا، أو نسمع عن أعمالٍ لم تكن ظاهرة للناس، فنقول متعجبين: “لكن هذا الرجل كان يصلي!”
الحقيقة أن العبادة ليست مجرد حركات ظاهرية، وإنما جوهرها التقوى والإخلاص. فقد أخبرنا النبي ﷺ أن من الناس من يؤدي العبادات، لكنه يوم القيامة يكون مفلسًا، كما جاء في الحديث الصحيح:
“أتدرون ما المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يُقضى ما عليه، أُخذ من خطاياهم فطُرحت عليه، ثم طُرح في النار.” (رواه مسلم).
فهذا الحديث يوضح أن العبادة ليست مجرد طقوس، بل هي منظومة متكاملة من الإيمان والعمل الصالح، ومن ظن أن الصلاة والصيام كافيان لدخول الجنة مع ظلمه للناس فقد غفل عن جوهر الدين.
وليعلم كل إنسان منا بأن الإيمان ليس بالمظاهر
كم من شخصٍ صلّى وقام الليل لكنه خان الأمانة، أو ظلم العباد، أو أكل حقوق الناس! وكم من صائمٍ منع نفسه عن الطعام لكنه لم يمنع لسانه عن الكذب والغيبة والنميمة! إن العبادات ليست قناعًا نرتديه أمام الناس، بل هي تهذيب للنفس، واختبار حقيقي لما في القلوب.
وقد جاء في القرآن الكريم وصفٌ لأناسٍ يظنون أنفسهم على خير، بينما هم في الحقيقة أبعد ما يكونون عن الهداية:
“وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ” (المنافقون: 4)
فالإيمان الحقيقي هو الذي ينعكس على الأخلاق والسلوك. لا فائدة من صلاةٍ لم تمنع صاحبها عن الفحشاء والمنكر، ولا معنى لصيامٍ لم يردع صاحبه عن الظلم. قال الله تعالى:
“إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ” (العنكبوت: 45).
فإذا كانت الصلاة لا تمنع صاحبها من الظلم والفساد، فهناك خللٌ في نيته أو أدائه لها.
والمنافقون هم أكثر من تنطبق عليهم هذه الحالة، حيث يظهرون التقوى والصلاح، بينما في باطنهم الحقد والفساد. وهؤلاء توعدهم الله بأشد العذاب:
“إِنَّ ٱلْمُنَٰفِقِينَ فِى ٱلدَّرْكِ ٱلْأَسْفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ” (النساء: 145).
علينا أن نحذر من الاغترار بالمظاهر، وأن لا ننخدع بشكل العبادات دون جوهرها. كما يجب أن لا نتسرع في الحكم على الناس، فقد يكون من نظنه صالحًا في الدنيا فاسدًا في الآخرة، والعكس صحيح. المعيار الحقيقي هو ما في القلوب وما يترجم إلى أعمال، وليس ما يراه الناس من مظاهر.
نسأل الله أن يجعل عباداتنا خالصةً له، وأن ينقي قلوبنا من الرياء والنفاق، وأن يرزقنا حسن الخاتمة.

قد يعجبك ايضا
تعليقات