القاهرية
العالم بين يديك

المتمردة. الجزء الثاني

7

بقلم: د _ عيد علي

ها أنا ذا أسترجع شريط ذكرياتي وأمسك بقلمي وأخط بمداد مشاعري ما أصبو إليه.

الآن، وبعد صراعٍ مريرٍ بين أن أبوح لها بما أشعر تجاهها وأستوضح منها حقيقة مشاعرها وخوفي من ضياعها، أخيرًا أخذت قراري أن أتجه إلى الله بدعائي، الذي لازمني كلما حلت بي ضائقةٌ أو مسألة استعصى عليَّ فيها القرار، أن أدعوه قائلاً: “اللهم إن كان في وصالها خيرٌ لي ولها فَيَسِّره لي، وإن كان في وصالها شرٌّ لي ولها فاصرفها عني واصرفني عنها.”

دعوت ربي وأنا في أطهر مكانٍ لأطهر فتاةٍ، لعل الله يُريحني من حيرتي.

وما إن وصلت الفندق إلا رأيتني أتصل بها وأتكلم إليها، وكلي نشوة وكأن باب السماء فُتِح لدعوتي.

**انقضت أيام غربتي واستجمامي وأنا ما زلت في تواصل معها حتى وصولي أرض الوطن. كاد قلبي أن ينطلق من بين صدري طائرًا إليها يخبرها بما يهزه تجاهها، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟

رجعت إلى مصنعي ورأيتها بقلبي قبل أن تراها عيني، وعندها أخذت قرارًا بدا لي من أول وهلة أنه صواب. فقد قررت أن أعرفها أكثر فأكثر؛ فكل ما لدي عنها من معلوماتٍ تكاد تعد على أصابع اليد. فإذا هي طفلة بريئة كفراشة رقيقة تتنقل بين البساتين تستنشق رحيقًا من كل زهرة. نعم، طفلة بريئة ليس لديها من عقبات وتقلبات الحياة ما يكفيها لمواجهة مكر الماكرين وكيد الكائدين.

فعرفتها حين عرفتها أقرب ما تكون من طفلةٍ أجادت السباحة في حمام سباحة وظنت نفسها قد اكتسبت كل المهارات التي تنجيها من سقوطها في أية مياه، ولا تعلم أن السباحة في البحار والمحيطات أكثر خطورة وأشد ضراوة.

كلا يا سيدتي، المياه ليست هي المياه، والنقاء ليس هو النقاء، والمخاطر ليست هي المخاطر.

فإن ساحرتي تعلمت الحياة من قراءتها وثقافتها وظنت أن ما أخذته من الكتب فيه ما يكفيها لمواجهة الحياة بمراراتها وقسوتها، ومكر الرجال وخبثهم، ودهاء النساء وحنكتهم. لا، لا يا ساحرتي، قراءة ألف كتاب لن تعلمك قراءة كتاب واحد في مدرسة الحياة. شتان ما بين ما هو مدون بالكتب وما هو مدون في التجارب.

عرفتها حين عرفتها طفلة مدللة، رقيقة المشاعر، مرهفة الحس، طيبة القلب، تحاول أن تظهر لناظريها أنها شرسة وقت الشراسة، لينة وقت اللين، حادة وقت الحدة، جادة وقت الجد، هازلة وقت الهزل. إن ما قرأته في الكتب وسَّع مداركها وأثمر فكرها فأصبحت تتحدث بالعقل والمنطق وتحلل وتستنتج بناء على ما ثقفت به نفسها.

واستمر الوضع وأنا أراقبها عن بُعد، حتى إذا ما تعرضت لموقف عسير لِنَتْ، كنت أسابق الزمن لردع كل من يعترض طريقها. كم كانت سعادتي عندما أساندها دون أن تدري وأرد عنها وهي لا تعلم. وكم من مرة حاورتني وجادلتني في أن أترك لها التصرف في المواجهة. أنصحها وتصر على السير فيما قررت فعله، ثم تراجع نفسها وتدرك كم كنت على صواب.

هذه الطفلة الساحرة جذبتني ببراءتها وسذاجتها حتى أشفقت عليها، وكم عاتبتني على إشفاقي هذا، فهي ترى نفسها أنها قادرة على مواجهة كل ما يعتريها، ونسيت أنها لا تجيد السباحة في البحار والمحيطات ومعظم من حولها حيتان وقروش لم تعتدها في حمام السباحة. وجدت نفسها في عالم غير عالمها، وأدركت أن الحياة مدرسة فيها المكر والخداع والكره والحقد، مصطلحات كانت تقرأ عنها ولكنها لم تعشها.

هذا ما وجدته حين راقبتها وأدهشتني بتجاوب كل من يراها، حتى أيقنت أنها ساحرة القلوب. ما من أحد تعامل معها إلا وسحرته. كنت أظن أنها حبيبتي حتى فوجئت أن الكل يحبها، فوجدت نفسي أحدًا كسائر الأحاد، وأنا الذي أراني منفردًا، فأيقنت أنني تائه في بحر لُجِّي لا أدري ما أوله من آخره.

وعادت تحيط بي التساؤلات مرة أخرى: أين أنت منها، وكل من حولها يحبونها؟ وكيف لا، وفيها من الصفات ما يتوجها ملكة الملكات وساحرة القلوب.

**ولكن إلى متى تستمر حيرتي؟ قررت المواجهة. قررت اجتياز كل العقبات. قررت ألا تراجع ولا استسلام. عندما ناداها غيري “يا حبيبتي”، قامت ثورتي ولم تهدأ، وجن الجنون من جنوني وكاد أن يمزق قلبي ضلوعي. هنا تذكرت يوم أن خرجت مني كلمة قريبة جدًا مما نعتها بها غيري وقد قامت قيامتي ودروس متتالية عن الاحتراف والمكانة والتقدير. أنبتني وهددتني تهديدًا غير مباشر وأوحت لي بالرحيل. ذهلت من رد الفعل على كلمة لم أضعها بذاتها ولكنها وضعت داخل سياق جملة، وكيف إذا كنت قلتها صريحة.

هذا اليوم يوم شقائي وبؤسي، يوم إهانتي وتعنيفي، اليوم يوم مشؤوم ما صادفت مثيله منذ مولدي ولم يخطر ببالي لحظة أني سأعيش حتى يخرس فيه لساني عن ردعها، ويبكي قلبي قبل أن تبكي عيناي. هذا يوم تعاستي وشقائي.

قارنت في هذه اللحظة ما حدث منها معي ورد فعلها مع من ناداها صريحة “يا حبيبتي” وسط هذا الحشد على الملأ. كلا وألف كلا، سأحطم قيودًا وأزلزل كيان كل من يقترب منها. هذا ما تملك عقلي وقتها. ولكن بأي حق هذا؟ ومن أكون أنا بالنسبة لها؟ لا شيء.

هذا ما أكدته لي المقارنة بين هذا التصرف وذاك. قارنت بين رد فعلها في الموقفين ويا ليتني ما فعلت. عشت ثلاثة أيام رأيت فيها الجحيم رؤيا العين، تمزق فيها قلبي تمزيقًا شديدًا. ما رأيت فيها النهار ضوءًا، وكأن الكون أظلم من حولي وضلت الشمس دنياي فلم تعد تشرق فيها.

وإلى اللقاء مع الجزء الثالث.

قد يعجبك ايضا
تعليقات