بقلم / انتصار عمار
بستانٌ جميل مليء بزهر البنفسج الآخاذ، الذي يأسر قلبي بجمال لونه، ورقته المتناهية.
دومًا كنت أستيقظ كل صباح، لأستتشق عبير الزهور، وأحاكي شمسه حين تُلقي بأشعتها الذهبية على محيط أفكاري.
وأسافر عبر سنا ضوئها لعالم آخر، فأسرح في جمال الطبيعة، وصوت قبلات الندى حين تُطبع على خدي الزهر.
وذات يومٍ غفت عيني، وغلبني النوم، حتى صحوت على صوت صراخٍ حاد، فأخذت التفت يمينًا، ويسارًا، وإذ بي لا أجد أحدًا حولي.
ظلتت أتساءل؛ من أين هذا الصوت؟ ولم هذا الصريخ يا تُرى؟
حاولت اتباع مصدر الصوت، وسرت نحوه، لكني داخلي شيء يرتعد، خائفة، إلا أنني حاولت التماسك بعض الشيء حتى أصل، وأدرك لم كل هذا الصراخ!
ربما أجد أحدًا يحتاج المساعدة، ولكنني كلما قاربت من المكان، علا وازداد صوت الصراخ، وكأنه يناديني، وكأنه يعلن لي عن مكانه.
وكلما علا صوته، كلما ارتعد الخوف داخلي أكثر وأكثر، وازدادت سرعة ضربات قلبي، واقتربت من الصوت شيئًا فشيئًا.
وإذ بي أجد سُلمًا صغيرًا بآخر البستان، يؤدي إلى دهليز، دنوت منه وهبطت درجات سلمه، حتى أستكشف المكان، ويا ليت مااقتربت، ولا دنوت.
فإذ بصرخاتي تنتفض، وتفر من سباتها العميق ، وتهرب من داخل أنفاسي، عندما رأيت ذلك العجوز الشرير يعذب فتاة صغيرة، ويتناوبها بالضرب المبرح.
كان داخلي سؤال يتردد مع أنفاس خوفي، من هذه الفتاة؟ أهي ابنته؟ تُرى من تكون؟ ولم يعذبها ذلك العجوز بتلك القسوة؟
ماذا فعلت؟ وأيا كانت فعلتها، لا يكون التعذيب بهذا الشكل، لكن سرعان ما التهم خوفي ذلك السؤال، عندما شاهدت نيرانًا موقدة، وحطب مشتعل، معلق به طفل صغير، وكأنه خرافٌ يُشوى.
عيني لا تصدق ما تراه، ونيران الخوف تُحيطني من كل صوب، تشتعل بي من كل جانب، وصوت صرخاتي يعلو ويحلق في سماء الخوف، وكأن لسان حاله يقول؛ ليت ما أتيت.
.لم أقو على تمالك أنفاسي المذعورة، وعجزت قدمايّ عن حمل كل هذا الخوف داخلي، وإذ بي أسقط، وصرخاتي الباكية تحتضن يد الأرض.
وفقدت الوعي تمامًا، ولا أدرى متى أفقت! وكأن الزمن توقف بي عند تلك اللحظة، كل شيء داخلي صمت، إلا خوفي كان يصرخ بشدة، وكأنه يستغيث بأحد ينقذ، ويوأمن روعه.
وعندما أفقت وجدت ذلك العجوز جالسًا بجواري، فصرخت صراخًا مدويًا، وقمت أتوسل إليه بأدمعي؛ ألا يؤذيني.
وهممت لأهرب من ذاك الظلام الذي طمس نور الحياة بعيني، وبنى قلاع الخوف داخل ثنايا جسدي.
وإذ بهذا العجوز يلاحقني، ويمسك بي، ويطلب مني؛ألا أرحل! كان صوته أشبه بيدٍ حانيةٍ تربت على صوت صراخي.
لا أدرى ماذا ألم بي؟ ولم خفقان قلبي هكذا؟ إنه لعجوز ساحر شرير، أتُراه سحرني؟
حينما طلب مني ألا أهرب، وأن أبقى، كأن صوته لامس نبضات قلبي، كأنه شعاع شمس اخترق جسدي في نهارٍ ممطر، فألبسني دفئه.
هناك شيء يجذبني إليه، حاولت أفيق مما أنا فيه، واستعيد وعي، ربما مازلت نائمة، ربما أحلم.
وإذ به يدنو مني، ويهمس في أذني قائلًا؛ لا تخافي، والله لن أؤذيك، كانت نبرة صوته بها دفء رهيب، لم تعهده أذني قط.
فنظرت إليه؛ وإذ بي أفقد الوعي للمرة الثانية، وأتوه عن ملامح ذلك العالم المخيف، وأفيق لأجده هو من يعمل على إيفاقي، ونظرات الأسى والشفقة تملأ عينيه.
ولحظ عينيه يخبر بشيء يواريه خلفه، أحسست بتيه شديد، وكأنه يسير بي لطاولة أحاديثه، ظل يحكي، والصمت أغلق مفاتح شفاهي، وأوصد باب لساني، فأعجزني عن الكلام.
فما كان مني سوى شهيقٌ، وزفير فقط يتحدثان، وأنا أستمع إليه، تملكت مني الحيرة، وكثرة التساؤلات داخلي، أشعرتني بدوار.
وعندما بدأ في سرد قصته علي، أحسست بصدق إحساسي، فقد كنت محقة، لم يكن هذا الرجل بعجوز، ولم يكن مطلقًا شريرًا.
وبدأ بنزع القناع الزائف الذي يرتديه، ويواري خلفه جمال روحه الحقيقي، وبدت ملامحه الجميلة ترسم ضوءًا ساطعًا بعيني.
سبحان من ألبسه ثوب الجمال، وسكب في بحر عينيه أشعة تضاهي أشعة الشمس، وعلمت منه أنه شاب في الثلاثينات من عمره، كان يدرس الأدب، ويغزل منه أبياتًا وأبياتًا، فيصنع منه القصيد.
وأنه أحب فتاة حتى جن بها، وكانا تواعدا على البقاء سويًا، واتفقا على الإرتباط، لكنها نقضت عهد الهوى، وغادرته، فألقت بها في غياهب التيه، والحزن، واعتزل العالم كله.
وسكن هذا الدهليز الحقير، وحاول أن يثأر لنفسه من هذه الفتاة التي أحبها، وخانت عهد الهوى، في كل شخص يقترب منه.
لكنه فشل في ذلك، ولم يستطع أن يخلع ثياب الإنسانية، ويُلقي بها أرضًا، فصنع تماثيل على هيئة أشخاص، ولعب دور المعذب، الذي يتفنن في عذاب ضحيته.
لقد رأى في ملامح وجهي الطيبة التي كان يبحث عنها، ورأي بعيني قصائد الهوى الهاربة مسطرة، وكأنما جيء بها من زمن بعيد.
وكأنها كتبت فيه، قبل أن يأتي، لعله الهوى المنشود، وها هي الشمس تعلن عن غروبها، تعلن عن موعد رحيلي.