القاهرية
العالم بين يديك

جنون الأسعار

52

 

عيد علي

في هذه الأيام التي لا يلتقي الناس فيها إلا ليتحدث بعضهم إلى بعض عن ارتفاع الأسعار وآثامها، والتي لا يخلو فيها الناس إلى أنفسهم إلا ويفكرون في كيفية الإنفاق على أبنائهم، وكيف يعلمونهم، وكيف يعالجونهم، وكيف يكسونهم ويسترونهم.

وفي هذه الأيام التي لا يصبح فيها الناس ولا يمسون إلا على أنباء، منها ما يسر ولكنه سرور فيه حمرة الدم وريح الدين، ومنها ما يحزن ويسوء؛ ولكنه حزن ليس كالأحزان؛ حزن عميق كثيف مطبق، يُعرف أوله ولا يُعرف آخره.

في هذه الأيام يحاول الناس أن يفروا من أنفسهم بالقراءة أحيانًا وبالمشاهدة أحيانًا أخرى أو بغيرهما من وسائل المتعة العقلية والنفسية؛ لعلهم يجدون فيها راحة من أخبار زيادة الأسعار المتتالية التي قصمت ظهورهم وخطوبها الباهظة، فلا يقرؤون إلا ما يتصل بالأسعار، ولا سيما أسعار الطاقة التي بدورها ترفع جميع أسعار السلع والمواصلات والأدوية. ولا يجدون من لذات الفن إلا ما بينه وبين الأسعار صلة، سواء كانت قريبة أو بعيدة.

في هذه الأيام المؤلمة والمضنية، يحمد الناس ربهم أن الهواء لم يتحكم فيه هؤلاء القاسية قلوبهم، وإلا لفنينا جميعًا سواء.

وكأني بكم أشاهد المصير المجهول لشباب في ريعان شبابهم أصابهم الفتور واليأس من عيشة كريمة ومستقبل لا يدركون مداه بعد رحلة دراسة صرف فيها الغالي والنفيس، وفجأة اصطدموا بالواقع: لا فرص عمل، ولا زواج، ولا يعرفون ماذا يفعلون. قوة مهدرة من الشباب ضربهم اليأس في ظل تواصل مسلسل ارتفاع أسعار كل شيء.

أسير كل يوم في الشوارع والطرقات والحواري حتى المدن والقرى فأرى وجوهًا عابسة سُرقت منها الابتسامة. لم نعد نسمع الضحكات ولا قهقهتها؛ كل ذلك تلاشى.

لو سردنا معاناتنا لاحتجنا إلى عشرات، بل مئات المقالات وما فرغنا منها.

لن أسرد وأفصل الأزمات التي نحن بصددها؛ فلسنا دعاة يأس ولا إحباط، بل ندق ناقوس الخطر لعل من يملكون نجدتنا يتحركون ويفيقون من غفلتهم، ولعل أصحاب الأدب والعلم يأخذون بأيدينا من فاجعتنا. يُقال في أمرين لا ينبغي لأحد أن يستكبر عنهما: الأدب والموت، ويُقال: إن الأدب يجلو العقل كما يجلو الوَدَك النارَ ويزيدها ضوءًا. الأدب يرفع صاحبَه كما تُرفع الكرةُ بضربة الرجل الشديد، والعلم يُنجي من استعمله، ومن علم ولم يستعمل علمه لم ينتفع به، وكان كمثل الرجل الذي دخل عليه سارق في منزله فاستيقظ، فقال في نفسه: “لأسكتن حتى أنظر غاية ما يصنع، ولأتركَنَّه حتى إذا فرغ مما يأخذ قمت إليه فنغصت عليه وكدرته”. فسكت وهو في فراشه، وجعل السارق يطوف في البيت ويجمع ما قدر عليه حتى غلب على صاحب البيت النعاس، وحمله النوم، فنام ووافق ذلك فراغ السارق، فعمد إلى جميع ما كان قد جمعه فاحتمله وانطلق به. استيقظ الرجل بعد ذهاب السارق فلم يجد في منزله شيئًا، فجعل يلوم نفسه ويعاتبها ويعض كفَّيه أسفًا، وعرف أن فطنته وعلمه لم ينفعاه شيئًا إذ لم يستعملهما.

فليتجه شبابنا إلى الله في هذه المحنة الشديدة حتى تزول. ففي طريق الله نجد شبابًا نضرًا غضًا لا يعرض له الذواء، ولا يدركه الذبول. يجدون لذة لأبصارهم، ولا يكادون يقرؤون في كتاب الله حتى يجدوا اللذة التي تخرجهم من هذه البيئة الثقيلة البغيضة التي يُكره الناس على الحياة فيها الآن. فهو منفذ يخلصهم بين حين وآخر، ساعة من نهار أو ساعة من ليل، إلى جو نقي طاهر، فيه للقلب رضا، وللعقل غذاء، وللحس راحة، وللنفس روح.

قد يعجبك ايضا
تعليقات