القاهرية
العالم بين يديك

شبيك لبيك..تطلب إيه

58

بقلم السيد عيد

في ليلة من ليالي الشتاء الماجن، حيث يلف السكون أرجاء المكان وتحيط بالأشياء هالة من الغموض، وجدت نفسي أفتح صندوقاً قديماً، يعود ملكه لجدي الراحل. كان الصندوق كصندوق الكنز المهترئ من الأطراف، وما إن رفعت غطاءه حتى رأيت فانوساً قديماً، متآكلاً بفعل الزمن، مع بريق خافت يلمع من داخله كأنه يحمل في قلبه أسراراً لم تبح لأحد.

بفضول، مددت يدي نحو الفانوس وبدأت أنفض عنه الغبار. وما إن بدأت بمسحه حتى لاحظت بصيصاً من الضوء، بدأ خافتاً، ثم أخذ يزداد إشعاعاً حتى غمر الغرفة كالشمس الصغيرة، وانطلق منه دخان كثيف عفريت ضخم يظهر بهيبة ووقار، اسمه عفركوش. كان يحمل في نظراته سخرية مستترة ونظرة متمردة، وكأن استدعائي له لم يكن على هواه.

وقف أمامي، مسدّداً إليّ نظرة عميقة وقال ببرود: “شبيك لبيك، هل لديك أمنيّة؟”، لكنه قالها وكأنه قد ملّ من تكرارها. حدّقت فيه قليلاً قبل أن أتمكن من التحدث، فباغتني بقوله، “آه… لا تخبرني! أنت تريد الثراء الفاحش، أليس كذلك؟ البشر لا يطلبون سوى هذا.”

ابتسم الجني عفركوش بخبث وقال: “لك ذلك.” ثم اختفى. بعد ساعات، اكتشفت أن حسابي في البنك انتفخ فعلاً بأموال ضخمة، لكنى استيقظت في اليوم التالي لأجد مأمور الضرائب على بابى، وقد رفعت قضية ضدى بتهمة “التهرب الضريبي.

بدا وكأن عفركوش كان يكتم ضيقاً عتيقاً من تكرار مثل هذه الأمنيات، حتى راودني شعور بأنه لم يكن يرغب حقاً في تحقيق أمنيتي. وكأن عفركوش كان يملك حلماً مؤجلاً وطموحاً يطمح فيه بعيداً عن حياة الفوانيس ومسح الرغبات. ربما أراد الاستقرار في مكان ما في صحراء الجن العتيقة، أو أن يكون له مطعم يقدم أصنافاً من الأطعمة السحرية لجمهوره من الجن. بل ربما راودته فكرة كتابة مذكراته ليطلق عليها اسم “الجني المنسي في عالم البشر”.

بدأ عفركوش يحكي لي عن تاريخه مع الفانوس. لقد كان يعتبره سجناً أبديّاً، لكنه لم يُحبس فيه بسبب كسله، بل لأن أحد رؤساء الجن اقترح مرة الفوانيس السحرية كعقاب للجن الكسالى، كمحاولة “إصلاحية”، لكن عفركوش لم يكن كسولاً، بل عاشقاً للاسترخاء وتأمل النجوم. كانت هذه الحياة أشبه بفخ نصبه له القدر، حيث كلما استعد للعودة إلى هدوءه، يقتحم حياته بشر جديد بفرك الفانوس. قال لي: “كم حلمت بتقاعد مريح، لكن الفرك أصابني بتسلخات .

حاول عفركوش أولاً استخدام العلاجات الشعبية للجن: عصير عيون الوطواط أو مسحوق أجنحة الجراد المجفف، ولكن لا شيء يبدو كافياً. ازداد الأمر سوءاً، فأصبح يتنقّل ببطء وبدأ في تجنّب الظهور المتكرر أمام البشر، خوفاً من أن يعرض نفسه لمزيد من الاحتكاك الذي قد يزيد الوضع تفاقماً.

استمرت معاناة عفركوش مع البشر ومع أمنياتهم التي تتنوع، وكلها تطلب منه حل مشاكل تتجاوز حتى قدرات الجن: العثور على الحب الحقيقي، التفوق في الحياة، أو حتى التخلص من وزن زائد! بدا لي أن البشر لا يرون فيه سوى آلة تلبي طلباتهم، غير مدركين أن هذا الكائن أمامهم لديه أحلام وأوجاع أيضاً.

في لحظة من لحظات الصدق النادرة، اعترف لي عفركوش قائلاً: “لقد أرسلت يوماً رسالة إلى رابطة حماية حقوق الجن، أطالب فيها بتخفيف أعباء أمنيات البشر؛ أمنيّة واحدة لكل فرد كافية، وأطلب يوم عطلة في الأسبوع!” ابتسمت متفاجئاً من صراحته، وسألته إن كان يعتزم الهروب من هذا العالم يوماً، لكنه أجابني بنبرة يملؤها القنوط: “محبوس أنا بين عالمين، لا أستطيع الفرار. ولكنني على الأقل أقاوم.”

وهكذا مضت ساعة كاملة في حديث عفركوش، هذا الكائن الذي وجدت فيه صديقاً أكثر من مجرد جني. شعرت به كروح محاصرة بين دوامة رغبات البشر وبين شوقه للحرية.

في نهاية اللقاء، سألني أخيراً: “وماذا عن أمنيتك أنت؟” لم أعرف ماذا أقول له. كل ما فكرت به هو أمنية بسيطة، أن يجد عفركوش تلك الراحة التي يتمناها، ولو لمرة، بعيداً عن الفوانيس وأعباء البشر.

وقبل أن أتركه يعود إلى سجنه، قلت له: “أتمنى لك الحرية، يا صديقي.”

قد يعجبك ايضا
تعليقات