القاهرية
العالم بين يديك

رانيا ضيف تكتب.. ما نسخر منه يسخر منا

17

علمتنا الحياة أن ما نسخر منه، كثيرا ما يسخر منا هو الآخر.
كم سخرت من مشهد الكفار في فيلم الرسالة حينما صنعوا تمثالًا من العجوة وأقاموا على عبادته، وعند جوعهم أكلوه!
هذا المشهد الذي طالما سخرت منه في طفولتي، لم أكن أعلم أنه سيأتي يوم وأجسده في مسرحي الخاص.
ففي تلك المرة التي اخترت فيها صديقًا مخلصًا، ثم تبين لي أنه لم يكن كذلك، كانت خيانته أشبه بتمثال العجوة.
طمست خسته بإخلاصي، وكأنني أخفي عن قلبي الحقيقة، مُصرة على ألا يرى ما يجب أن يُرى، مُفضلة العمى العاطفي على مواجهة الحقيقة المرة. وكأنني صنعت تمثالًا من المشاعر، من الأمل، من الإخلاص، وعبدته بصمت، رغم أنني كنت أرى علامات خيانته منذ البداية.
أكلتني خيبتي قطعة بعد قطعة، مثلما أكلوا تمثالهم حينما اشتدت حاجتهم.
أدركت حينها أن السخرية لم تكن فيهم، بل كانت فينا جميعًا، نحن الذين نخلق أوهامًا ثم نستهلكها بألم حتى لا يبقى لنا منا سوى الرماد.

هكذا تعلّمنا الحياة أن تلك الدروس المتكررة ليست للانتقام من غفلتنا، بل لتهذيب قلوبنا، حتى نُصبح أكثر حكمة في اختيار تماثيلنا، وأصدق في الاعتراف بجوعنا.
كم ضحكت من أولئك الذين يهربون من أنفسهم، يبحثون عن ملاذ في الآخرين، لكنهم يعودون في كل مرة ليواجهوا أنفسهم مجددًا. كالساعي في دائرة مفرغة، لا يكتشف أنه لا يمكنه الهروب من نفسه. وها أنا اليوم أجد نفسي أقوم بنفس الدور، أبحث عن ملاذ في صور مزيفة، وأهرب من الحقيقة التي تطاردني في كل زاوية!
سخرنا من القصص التي تنتهي نهاية غير سعيدة، وكأننا نحن خالقي النهايات السعيدة. نسينا أن الحياة لا تمنحنا دائمًا خيار الكتابة وأن الواقع قد يفرض علينا دور المتفرج في قصة ظننا دوما أننا أبطالها!
كم مرة ظننت أن الصمت قوة، وأن الكلمات لن تعد تجدي في كثير من المواقف المخزية، ثم أدركت أن الصمت كثيرا ما يكون ضعفا وعجزا وأن للكلمة قوة تفوق قوة المدافع وتكمن في توقيتها.

“سخرنا من أولئك الذين يلحقون أحلامهم المستحيلة، وكأننا نملك الحقيقة المطلقة أو نرى نهاية الرحلة! وها نحن اليوم، نطارد أحلامًا أخرى، أكثر وهمية وأكثر بُعدًا، ولكن بداخلنا نفس الطفولة والروح الوثابة التي لم تنضج بعد. نضحك في وجه القدر، ونتوقع أن يسير كل شيء كما نريد.”

هكذا تتجلى سخرية القدر في أبهى صورها في تلك اللحظات التي نظن فيها أننا نملك مقاليد القوة والذكاء، متمتعين بقدرة فطرية على التحصن ضد الخديعة. في خضم اعتقادنا الراسخ بأننا محصنون من المراوغة، نغفل عن تلك الفجوات النفسية التي تجعلنا ضحايا لمكر الآخرين. وندرك بعد فوات الأوان أننا كنا حقلًا خصبًا للغدر، أرضًا خصبة تزرع فيها الأوهام ويزهر فيها الخداع.

تجتاحنا مشاعر مختلطة حين نكتشف أن تلك الثقة العمياء كانت سهما مسلطا نحو قلوبنا، وكأن القدر يهمس لنا في آذاننا بأن الغفلة هي المعلم القاسي الذي يعلمنا أن القوة ليست مجرد ميزة تُصنع من الأنا، بل هي الوعي بضعفنا الإنساني وقابليتنا للخطأ.
تُجسد هذه السخرية عبر هذه الدروس القاسية مسارًا مختلفا يضعنا أمام مرآة حقيقتنا؛ نحن ككائنات تبحث عن الأمان في سطوة العقول، قد نكون أكثر عرضة للإصابة بالصدمة حين تغفل عقولنا عن رؤية الحقيقة المتجسدة أمامنا. وعندما يحين الوقت لتسقط الأقنعة، نُحاصر بوعيٍ متأخر، نُدرك أن الحكمة ليست في الادعاء بالقوة، بل في الفهم العميق لحقيقة النفس البشرية المعقدة، ونعلم أن الحذر هو مفتاح النجاة من سخرية القدر.

قد يعجبك ايضا
تعليقات