القاهرية
العالم بين يديك

محاكمة عقل

12

بقلم/ سالي جابر

في صمت مهيب لقاعة كبيرة ينزوي في أحد أركانها قفص الاتهام، تتطلع منه أفكاري في خوف عميق، واحدة تلو الأخرى، تنتظر الحكم عليها. صاح الحاجب، ووقف الجميع تحية وإجلالاً… إنها محكمة العقل الهادئة، وها هو قاضي الضمير يشير بيده إلى الفكرة الأولى لتتحدث عن نفسها، يوجه إليها الاتهامات، وعلى عاتقها اليوم الدفاع عن ذاتها أو البقاء هنا في سجن الظلمات شريدة. قالت بخوف:
“أنا الصورة المشوهة للذات التي تربيت عليها في صغري، كلما حاولت تلك الرأس العمل بجدية ونظر إليها أحد بتعالٍ تراجعت وشعرت بالخوف. انزويت على نفسي، أحتضنها وأبكي معها. نحن مرفوضون، علينا السعي أكثر لإرضائهم، لكسب قلوبهم؛ فإن فعلنا تغير مجرانا، وإن لم نفعل سرنا في طريق الخوف مكبّلين. فماذا أفعل، سيادة القاضي؟ أنا فكرة الرفض الضائعة وما بيدي حيلة للبقاء. ماذا أفعل؟…”
نظر القاضي بنظرة شمولية إليّ وإليها، ثم قال:
“أليس عليكِ، وقد بلغتِ هذا العمر، التحرر مما مضى؟ ألم يكن بإمكانك تحدي الخوف والرفض لتصيري بصورة أفضل؟! الماضي يمكنكِ تغييره، فلا يجب أن تظلي أسيرته طيلة حياتكِ.”
ونادى على المتهمة الثانية، فأجابت: “حاضرة، سيدي القاضي، عمري ثلاثون عامًا، قضيتها في هذه الرأس، أخاف الفشل وأتجنب المحاولة. أجلس منزوية، أستذكر كل مرة حاولت فيها وواجهت الفشل. أنا ابنة الأمس، ابنة التجارب السيئة، أحمل خبرات سلبية سابقة. ماذا أفعل؟ أقترب ثم أفر هاربة، كأني أنقذ نفسي من المشاعر السلبية الأليمة.
نظر إليها القاضي بحدة، وقال: “وأين الأمل؟”
تدخلت فكرة أخرى وقالت: “أنا الأمل يا سيدي، لقد تجاوزنا معًا كل شيء وتخطينا العقبات والطرق المعبدة، وفي كل مرة كنت أحاول تقويتها، لكنها فكرة عصية، دائمًا ما تتركني وتمضي.”
وفي صمت قاتل، تقدمت الفكرة الثالثة عندما أشار لها القاضي، واستجوبها: “لماذا تتغلغلين في زوايا الروح، أيها الشك؟”
أجابت: “لا أدري، لكنني أعتقد أنني صارمة وعادلة في توجهاتي وأوامري لهذه الرأس، أترصد حركتها وأتبعها. هي رأس تائهة، تحاسب نفسها على كل كبيرة وصغيرة، تردد: هل أنا صادقة، صحيحة؟ ثم تقول بصوت عالٍ: كلا، مكاني القمامة. أين الثقة حين كنت أرفع يدي لأجيب، فأقف متلعثمة الحروف، فيضحكون عليّ! كلما حاولت تبعثرت أكثر، فترسخ الشك في نفسي، وأصبحت جادة حد القسوة.”
انتهت الأفكار من دفاعها وصمت الجميع. رفعت الجلسة بانتظار الحكم. جلستُ أنا أنتظر الكلمات التي إن نطقت خففت أحمالاً جمة. ظهر الحاجب من جديد، وجلسنا لنستمع إلى قاضي الضمير.
فقال القاضي: “الحكمة التي تقف صامتة تشاهد الموقف من بعيد هي المتهم الأول، رغم كونها خارج قفص الاتهام. أحضروها إلى هنا.”
قالت الحكمة: “لكل فكرة حق التعبير عن نفسها، وعلى العقل أن يقودها ولا يسمح لها بالسيطرة عليه، ولا أن يسلب حريته.”
قال القاضي: “أيها العقل، يُحكم عليك أن تكون قائدًا لأفكارك، لا سجينًا لها. لا تدعها تشوش عليك وتسلبك حريتك، وكن عادلًا في تعاملك مع كل أفكارك، واترك الماضي خلفك.”
خرجت من المحكمة تاركة خلفي كل الأفكار المثقلة بالهموم. أستنشق عبير زهور الشارع المنير بزخات المطر، وأنا أستعد لاستقبال أفكار جديدة تضيء لي الأيام المقبلة.

قد يعجبك ايضا
تعليقات