القاهرية
العالم بين يديك

عذرًا أيها القدر

13

بقلم / انتصار عمار

الأم هي حجر الأساس لأي بيت، النواة الحقيقية، بل وهى اللبنة التي يبنى عليها الطفل، ويُنشَأ تنشئة سوية.

هي ينبوع الحنان والدفء، مركز إشباع الطفل عاطفيًا، وكذلك مركز تأهيله سلوكيًا.

وكما قال “ويليام شكسبير” عن الأم ؛ إن أرق الألحان، وأعذب الأنغام لا يعرفها إلا قلب الأم.

لم تكن يا صغيري مجرد شيء يكبر داخل أحشائي، ويتغذى من حبلي السري، وينام ووسادة رحمي.

يشاركني كل لحظاتي، معي في كل حالاتي، معي حين أفرح، وحينما يخترق الدمع سقف عيني.

ربما كنت لك ملعبًا صغيرًا، ضيقًا، تركل فيه يمينًا، ويسارًا بقدميك الصغيرتين، وكأنك تركل كرة قدم.

لم تكن ركلاتك، ولا حركاتك تزعجني، بل كنت أسعد بها حين تتحرك داخلي، تنبض وأنفاسي التي تتلهف لقدومك.

وأتوق إلى رؤياك، كي أحتضن تلك اليد الصغيرة الحانية، وأقبل تلك القدم الناعمة، وأعانق فيك سعادة حُرمتها.

ولربما أيضًا كنت دارك الآمن الذي تبيت فيه كل يوم وليلة لمدة تسعة أشهر، أعلم أنه لم يكن بمتسع لك.

لكني أعلم يقينًا أيضًا أنك تغذيت فيه طعام حبي.
وشربت منه سقاء حناني.

كم أحببتك يا صغيري، وكم عانيت فترة حملي بك، تألمت كثيرًا، وحرمت النوم لفترات طويلة، وكم أبقاني الوجع سهرانة، يهجر النوم أجفاني المتعبة.

إلى أن جاءت اللحظة الحاسمة الفارقة، الناهية لوجعي هذا، اللحظة التي يعانق فيها قلبي أولى صرخاتك، وتقبل فيها عيني دمعاتك في أول لقاء لك مع الحياة.

ولكن حتى هذه اللحظة سلبتها مني يد الأقدار ، فقد كنت مغشيًا عليّ، مكبلة أنفاسي، مخدرة بسياج البنج، الذي حملني وجناحيه لدنيا أخرى. فقدت فيها الوعي.

كل ما كان بيني وبينك يا صغيري، هو لقاء روحي فقط، حين وضعوك جواري تصرخ، وتركوني وصرخات ألمي حين نزعوك من داخل أحشائي.

وأخرجوك لعالم لا يملك سوى أياد باطشة، قاسية، وبعد انقضاء ساعات قليلة من فقدان الوعي، وعدم إحساسي بالزمن أو بك يا صغيري، أو حتى نفسي.

انتبهت وصحوت من موتتيَ الصغرى، أفقت على صرخاتك التي تعلو لتعلن لي عن جوعك.

وهذه كانت هي المرة الأولى التي أضمك فيها إلى صدري، واطبق فيها على أضلعك، واحتضنك كلك، ولأول وهلة كان الدمع يترقرق بعيني فرحًا لقدومك.

وكأنني بك سوف أحيا عالمًا آخرا، ولم يكن كن أمر الرضاعة قاصرًا على مجرد تغذيتك فقط على لبني، وإنما كان حديثًا طويلًا بيني وبينك يا صغيري.

وكأني أخبرك فيه بما لاقيته قبل مجيئك، وكأن قدومك هو الخيط الرفيع الذي سيفصل بيني، وبين كل مر.

لم تدم فرحتي هذه كثيرًا، وكأنه حالي المسطر والمكتوب في غيب السماء مع القدر.

فلقد آخذوك مني، انتزعوك مني على حين غفلة، سلبوك مني، سلبوني حقيَ في الحياة، هكذا امتدت أيادى الظلم لتنال مني فيك.

نفوك عني يا صغيري، قصوك أقصى البلاد التي لا تملك قلبًا، بلاد نزعت منها الرحمة، يبدون كنحن، لهم كما لنا من جلدة، وهيئة بشر، لكنهم ليسوا ببشر، فلقد محت أياد قسوتهم ملامح وجوههم، ومعالم آدميتهم.

حرموني منك يا صغيري، وحُرمت سماع كلمة ماما، ختموا على قلبي وجعًا، وموتًا، فكيف لي أن أحيا بعيدًا عن أحضانك يا صغيري؟

تبًا لها أياد الريف اللعينة، التي فرضت قيودًا كبلتني بها، وقوانين باطشة ظالمة وضعتها، لتحول بيني وبينك.

كم أشتاقك! كم أتوق إلى ملامحك الصغيرة التي لا أعلم كيف هي الآن؟ ومن تشبه ؟ أشتاق لنظرات عينيك حتى تحتوى ما بداخلي.

أتوق لأضمك داخلي، وحدي أمك، ولن يستطيع أحد أن يمحو اسمي اللصيق بإسمك في شهادة ميلادك.

كنت داخلي، وأتوق لرؤياك، لقدومك، لم أكن أعلم أنه بمجرد قطع الحبل السري الذي يربطك بي، أن همزة الوصل بيني وبينك
لم تعد.

شريان الحياة الممتد مني إليك، قُطع، أنفاسي التي كنت تحيا عليها ما عادت، باعدوا بيننا حينما نزعوا الحبل السري الذي يربطنا ببعض.

وحينما استعاضوا بلبني، قسوتهم، وأبدلوك رضاعي بجبروتهم، وطغيانهم.

عذرًا لك أيها القدر، فأنا أم حُرمت صغيرها، ولم أكن كأم موسى، وأني لي بقلبها، حينما ربط الله عليه.

ولا أمتلك صبر يعقوب، حينما حُرم أحضان يوسف صغيرًا، مازلت أحياك يا صغيري، وأحيا بأمل لقاءك، وأعلم أن ملامحك قد تبدلت.

وصوت صراخك المبهم صار مفهومًا، ونداءتك انفجارات مدوية في وجه من أماتوني ببعدك عني، تعلن حاجتك لأمك.

لقد نجحوا في إبعادك عني، لكنهم لن يحظوا بهذا كثيرًا، فحتمًا ستكبر القدمان الصغيرتان، وتحملك سفينة الحياة لتبحر وشاطئي.

وتصير شابًا يافعًا تحمل حقائبك دموع أمك، وصرخات قلبها، وتحمل ثنايا قلبك حب أم كتب عليها الحرمان.

سأحيا يا صغيري بنار العذاب أملًا جديدًا، أرسمه في كل لحظة، عسى ألقاك يومًا.

لو أن عمري بيدي يا صغيري، لوهبته لك، ولو أن هلاكي فيه راحتك، لهلكت، باعدت بيننا أمواج الحياة كثيرًا، حتى ألقت بي خارج الشط، وما كان يهمني سوى نجاتك أنت.

فالأم هي زهرات الحياة، التي تفتح نوافذ الأمل لصغيرها، كي يتنفس شذا عبيرها، وهي ينابيع الحنان والعطاء حين تجف الأنهر.

وكما وصى عليها رسول الله وقال حينما سُئل؛ من أحق الناس بصحبتي يا رسول الله؟
قال؛ أمك ، قال؛ ثم من؟ قال ؛ أمك ، قال؛ ثم من؟ قال؛ أمك ، ثم أبوك.

قد يعجبك ايضا
تعليقات