القاهرية
العالم بين يديك

شيزوفرينيا

112

بقلم: سعد الحداد
بعد انتهاء حوارهما العاصف، والذي شهد مواجهة غاضبة أطلق فيها الثنائي المقبل على الزواج العنان لكل ما في قلبهما من ألم وكل ما في عقلهما من تساؤلات، ألقى بجاد في نهايته كلمته الأخيرة، والتي أنهى بها اللقاء وأعلن معها نهاية علاقته بخطيبته سهام. اتجه بجاد مسرعًا إلى الشارع المزدحم بالمارة، وما هي إلا دقائق معدودة حتى وقف بلا رغبة منه أمام أحد المحلات المجاورة لمكان اللقاء، مواجهًا صورته التي انعكست على زجاج المحل. كانت وقفته مفاجئة وعفوية تمامًا، حتى أنه أحدث ارتباكًا للمارة خلفه وأمامه، وتفرقوا لتفادي الاصطدام به. أربكه توتر سير المارة من حوله، وحين عاد الانتظام إلى سابق عهده، أعاد النظر إلى الصورة المنعكسة من زجاج المحل، ووجهه يتغير لونه من حمرة الغضب إلى اصفرار وشحوب، وكأن من يراه في زجاج المحل شخص آخر… شخص لا يشبهه ولا يكرر ما يفعله. كان يعلم أن المرآة، كما تسبب انعكاس صورة الشخص، كانت أيضًا تعكس حركاته، فيمينه يصبح يساره، ولكن ما يراه الآن شيء مختلف؛ فالواقف أمامه في المرآة لا يكرر حركاته، بل هو شخص مستقل تمامًا. نعم، يشبهه في الملامح والمواصفات والمقاييس، لكنه كمن يملك إرادة مستقلة عنه.

ما أثار شكوكه أكثر وأكثر، ذلك الهدوء الذي خيم على الشارع وانعدام المارة بجواره، وكأنما أُخلي المكان له ولصورته المتمردة عليه. انتابته ارتجافة تعلن عن فزعه حين سمع صوت من تجسد أمامه في المرآة وهو يوجه إليه أول أسئلته:
— لماذا غضبت منها؟ ولمَ ثرت عليها تلك الثورة الشعواء؟
— ألأنك تأكدت من خيانتها؟
— ألم تكن تتوقع تلك الخيانة حين أقدمت أنت على خيانتها؟

توالت الأسئلة وهو صامت جامد، وكأنما قدّ من صخر جبل المقطم، والذي كثيرًا ما شهد بداية نزواته، وربما نهايتها أيضًا، فبعضها لم يستغرق أكثر من ساعات قليلة. حاول جاهدًا أن يتحدث، وانطلق لسانه أخيرًا من محبسه بعد طول عناء، ووجه لقرينه أول أسئلته، وأكثرها منطقية:
— من أنت؟

أثار غضبه تلك الابتسامة التي علت وجه قرينه وهو يجيبه بكل هدوء:
— أنا… أنت!

ارتفعت يداه تعجبًا ولم ينطق بكلمة واحدة، مما أعطى فرصة للقرين أن يكمل حديثه:
— أنا أعظم إنجازاتك، ألم تتباهَ بي دائمًا؟ ألم تشعرك بطولاتي بنشوة النصر؟ ألم تجعلني أفعل ما تريده أنت من أفعال تخجل أنت أن تواجه بها مجتمعك؟ ألم أجعلك تبقى دائمًا أمام الجميع الشخص المثالي الكامل؟ أنا بجاد الإنسان، وأنت… بجاد الملائكي.

استمر جموده الصخري، ومعه تحجر لسانه رغم انفراجة فمه دهشةً أو رعبًا. فأكمل القرين:
— أم تراك صدقت نفسك حين ألقيت تلك المواعظ في وجه سهام، وأعطيتها أهم دروس حياتها في الأخلاق، وأجزلت لها اللوم على ما ارتكبته من خطيئة، واكتشفتها أنت ليس بفضل ذكائك، ولكن بمحض الصدفة.

أنزل بجاد يديه إلى جانبه بعدما شعر بآلام بهما، وتقدم خطوة إلى الأمام فابتعد القرين خطوة إلى الوراء، وتوقف هذا حين توقف ذاك. وعلا صوت الأصل حين صاح في الصورة:
— أنا رجل يا هذا! أفعل ما أريد. أما هي… أما هي… فلا تفعل ما فعلته إلا مع زوجها، هو فقط من يزيل عنها ما غُلفت به، هو فقط من ينظر أول نظرة، ويلمس أول لمسة، ويظل إلى الأبد هو وحده من يمتلك تلك الحقوق.

فاجأه القرين حين تقدم خطوة إلى الأمام وأتبعها بأخرى، وقاطعه صائحًا:
— وأنت! حين أزلت كثيرًا من الأغلفة ولمست آلاف اللمسات، ألم تعتدِ على حقوق أزواج آخرين؟ أم تراك نسيت ما فعلته أنت بعدد لا تكاد أن تحصيه من الأزواج؟ أنت تعيش في عالمك سعيدًا مطمئنًا، وتلقي خطاياك وأوزارك على كاهلي وكأنني شخص آخر. اعتقدتَ دائمًا أنني من سيحاسب، وأنني من سيتلقى جزاء كل هذه الخطايا، وأنت ستحيا ملاكًا سعيدًا منزهًا… كلا! أفق يا هذا، فإنني لن أسمح لذلك الوهم الذي تتمناه أن يحدث. ستلقى جزاء ما فعلت بي وبالآخرين، واعلم أن الحساب لن يتأخر كثيرًا، وأنا… من سينتقم. ولتعلم أنني قد بدأت بالفعل انتقامي، وأولى خطواته هي ظهوري لك وحديثي معك.

ارتعب بجاد حين رأى ملامح قرينه قد تغيرت وتشوهت، واتخذت كثيرًا من الصور؛ رأى في وجهه بعض الرجال الذين غافلهم واغتصب حقوقهم، ورأى وجوهًا لا يعرفها أو ربما عرفها ونسي أسماء أصحابها. وازداد رعبًا حين رأى القرين يتقدم ويسرع في خطواته وهو يوجه إليه حديثه الغاضب ويقول:
— لقد جعلتني دائمًا في الظل، ولقد مللت حياة الظل. سأخطو أولى خطواتي إلى حياة النور.

قال ذلك وأكمل طريقه تجاه بجاد حتى أصبحت صورته تملأ زجاج المحل، بل وتعدته إلى أرض الشارع، مما جعل بجاد يتراجع إلى الخلف سريعًا وهو يضع يديه أمام وجهه. وحين أصبح بجاد الصورة يقف أمامه، بدأت الرؤية تهتز بشدة في عيون بجاد، وبدأت صورة القرين تتلاشى تدريجيًا حتى اختفت تمامًا. ومع تلاشيها، عادت أصوات الشارع تعود إلى مسامعه حتى أصمت أذنيه، وبدأ يعود إلى عالم الواقع، أو ربما عاد عالم الواقع إليه. وشاهد جمعًا من الناس قد التفوا حوله، وقد حملت وجوههم تعجبًا أو رعبًا مما يفعله ويقوله. وما هي إلا لحظات قليلة حتى أدرك بجاد ما أفزعه… فكل من حوله من شخوص مختلفي الأعمار والأحجام، وإن اختلف جنسهم، يمتلكون وجوهًا تشبه وجه قرينه الذي اختفى منذ قليل. وكل الوجوه غاضبة وتضمر له الشر، وعيونهم تفصح عن مشاعر شتى أهونها كراهيتهم له. ولم يتردد بجاد لحظة حين أدرك أنه محاصر من نسخ عديدة من قرينه الغاضب، لم يتردد في أن يدافع عن نفسه، وبما أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، هاجم بجاد جميع من حوله، فبادله الملتفون حوله هجومًا بهجوم. تزايدت الأيدي المهاجمة، وازدادت الضربات قوة، وارتسمت على وجوههم التي تشبه وجهه ابتسامة خبيثة. وفشلت محاولاته في التغلب عليهم، فكل محاولة تزيد من وقع الهجوم، واستطاع الجمع بعد برهة أن يوقعه أرضًا، وانضمت الأرجل إلى الأيدي في الهجوم عليه، وتحولت الابتسامات إلى ضحكات هستيرية يسمعها جيدًا ويتعجب لمَ لا يحاول المارة نجدته. حاول هو أن يستغيث بهم، وتراجع سريعًا حين جال ببصره في وجوه من تجمعوا لرؤية انتقام قرنائه منه، فرأهم جميعًا يحملون نفس الوجه الذي بات يكرهه. وحين أدار وجهه لينجو برأسه من ضربة كادت أن تصيبه، رأى وجهًا مختلفًا ينظر إليه… إنها هي، بالتأكيد هي سهام. رآها تقف بعيدًا، ولم يستطع من كثرة اللكمات والركلات، وذلك السائل الساخن قاني اللون الذي يسيل من رأسه إلى وجهه، لم يستطع أن يميز تلك النظرة التي ترمقه بها، لم يستطع أن يحدد ما يعلو وجهها الجميل، أهي ابتسامة تشفٍ أم شعور بالألم والحزن على من كان قبل دقائق حبيبها.

بدأت جفونه تتثاقل وذهبت كل محاولاته لإبقائها مفتوحة سدًى، وبدأ يستسلم لذلك الخدر الذي يسري في جسده، خاصة حين رأى من كانت حبيبته تستدير وتبتعد. وتناهى إلى سمعه من بعيد أصوات سيارات شرطة أو إسعاف، وبدأ ضوء النهار يتضاءل في عينيه، وبدأت آلام الضربات التي يتلقاها تختفي. وحين قرر أن يسلم رأسه ووجهه إلى الأرض
وحين قرر أن يسلم رأسه ووجهه إلى الأرض، رأى قرينه يقترب منه زاحفًا حتى التصق به. شعر بألم مبرح يعتري كامل جسده، ولم يدرِ وقتها أهو ألم اندماج القرين أم ألم خروج الروح.

قد يعجبك ايضا
تعليقات