بقلم- رانيا ضيف
الكلمة هي القوة الخفية التي تحرك عجلة التاريخ وتعيد تشكيل الوعي الإنساني. فالأدب والعلوم الإنسانية ليسا مجرد تراكمات معرفية أو نصوصًا خالدة، بل هما مرآة تعكس معاناة الإنسان وتساؤلاته الوجودية العميقة وتطلعاته.
كيف يمكن لكلمة مكتوبة أو فكرة فلسفية أن تهزّ أركان المجتمعات وتُحدِث ثورات داخل النفوس والعقول؟
في هذا المقال، نستعرض كيف يتجلى تأثير الأدب والعلوم الإنسانية في تغيير مسارات التاريخ وتقدم الشعوب.
أولا إذا أردنا أن نعرف الأدب بشكل بسيط لقلنا أنه الكلام البليغ الذي يؤثر في نفس القارىء أو المتلقي، هو نوع من التعبير الإنساني الذي ينقل الأفكار والمشاعر التي ينفعل بها الكاتب ويتفاعل معها من خلال اللغة المكتوبة أو المنطوقة بأسلوب فني وجمالي. يشمل الأدب الشعر، القصة، الرواية، المسرحية، والمقال، ويتناول موضوعات متنوعة ومتباينة مثل الحب، الفلسفة، السياسة، الدين، والوجود الإنساني.
يتميز الأدب بقدرته الفريدة على التأثير في القارئ أو المستمع من خلال استخدام الرمز، والتشبيه وسائر الصور البلاغية، بالإضافة إلى أنه يعتبر وسيلة لفهم العالم والتفاعل معه عبر الخيال والمشاعر، وهو يعكس الثقافة والهوية المجتمعية.
ساهم الأدب على مر العصور في إحداث تغييرات اجتماعية وسياسية كبيرة من خلال تسليط الضوء علىالقضايا والمشكلات.
فيما يلي بعض الأمثلة التي توضح كيف يمكن للأدب أن يكون له تأثير بعيد المدى:
رواية“توقعات العظمة” (Great Expectations) لتشارلز ديكنز هي أحد أبرز الأعمال الأدبية التي أثرتعلى الرأي العام في إنجلترا في القرن التاسع عشر. الرواية تسلط الضوء على قضايا الطبقات الاجتماعية،والظلم، والفساد. تأثيرها كان كبيراً، حيث ساهمت في رفع الوعي حول قضايا الطبقات والفجوةالاجتماعية، مما أسهم في دفع بعض الإصلاحات الاجتماعية في إنجلترا.
ورواية “في قلب الظلام” (Heart of Darkness) لجوزيف كونراد تعرض نقداً شديداً للاستعمار الأوروبيفي أفريقيا. الرواية أثارت نقاشات واسعة حول استغلال الاستعمار والتأثيرات المدمرة له على الشعوبالمستعمَرة. هذا العمل الأدبي ساهم في تعزيز الوعي الاستعماري ونقد الاستعمار، مما ساعد على تعزيزالحركة المناهضة للاستعمار والحقوق المدنية في القرن العشرين.
والرواية الشهيرة “الجريمة والعقاب” (Crime and Punishment) لفيودور دوستويفسكي وهي رواية تطرح تساؤلات عميقة حول طبيعة الجريمة والعقاب. تناولت الرواية الصراع النفسي والأخلاقيللشخصيات، مما أثر على فهم المجتمع للجريمة والعدالة. تأثير الرواية كان واضحاً في تطوير المفاهيمالقانونية والنفسية المتعلقة بالجريمة والعقاب.
رواية”الأوديسة” (The Odyssey) لهوميروس ليست مجرد ملحمة قديمة، بل كان لها تأثيرات عميقةعلى الهوية الثقافية والوطنيّة لليونان القديمة. الرواية أسهمت في تشكيل فهم اليونانيين لثقافتهمومعتقداتهم، وعززت مفهوم الهوية الوطنية والبطولة.
رواية “كوخ العم توم” (Uncle Tom’s Cabin) (1852) للكاتبة الأمريكية “هارييت بيتشر ستو” الناشطة في حركة التحرير من العبودية. وهي شخصية مؤثرة في كتاباتها وكذلك في وقفاتها العلنية فيالقضايا التي كانت تٌهم المجتمع آنذاك.كانت روايتها صورة لحياة الأفارقة–الأمريكيين تحت ذل العبودية. وصلت هذه القصة للملايين كرواية وكمسرحية، وكان لها تأثير كبير في الولايات المتحدة وبريطانيا. حمست القصة القوى المعارضة للرق بشمال أمريكا، بينما أثارت غضبا واسعا في الجنوب. وقد كتبتهاريت أكثر من عشرين كتابا تضمنت العديد من الروايات. وقد كانت هذه الرواية الكتاب الأكثر مبيعاً فيالقرن التاسع عشر بعد الكتاب المقدس.
في الوقت الذي نسمع نداءات تافهة لإلغاء بعض كليات العلوم الإنسانية أو تقليصها، وإلغاء بعض المواد الدراسية مثل الفلسفة، التي تعد أصل العلوم، أردت الاستشهاد ببعض الروايات التي أحدثت طفرات اجتماعية وتغييرات سياسية عن طريق تسليط الضوء على مشكلات وقضايا المجتمع آنذاك.
الأدب كان دائمًا وسيلة قوية للتعبير عن هموم الشعوب واحتياجاتها. فمثلاً، أعمال نجيب محفوظ مثل “الثلاثية” سلطت الضوء على التغيرات الاجتماعية والسياسية في مصر، كما كانت روايات فيكتور هوغو مثل “البؤساء” مرآةً للمشكلات الاجتماعية في فرنسا وأثرت على وعي الأجيال حول قضايا الفقر والظلم. هذه الروايات لم تكن مجرد قصص، بل كانت أدوات تغيير أثرت على الوعي الجمعي وساهمت في تشكيل الرأي العام.
والسؤال الذي يفرض نفسه عندما نسمع ونرى تلك الترهات: كيف كانت ستنتقل لنا كل الحضارات إذا أهمل العالم القديم الفن والأدب وطرق التعبير المختلفة عن طقوسهم وعباداتهم وعاداتهم وتقاليدهم وعلومهم؟!
كيف كانت حضارتنا المصرية القديمة ستصل لنا لولا براعة أجدادنا في مختلف أنواع الفنون والأدب؟ من خلال الأدب والنقوش والكتابات، تمكنا من فهم حياتهم واحتياجاتهم وتطلعاتهم. الأدب، مثل الفلسفة والفن، ليس ترفًا بل هو ذاكرة الشعوب وطريقة تواصلهم مع العالم.
فالعلوم الإنسانية هي ذاكرة التاريخ والثقافة، وبها تتغير الشعوب وتبنى الحضارات. الأدب، باعتباره جزءًا منها، هو قوة فاعلة لتغيير المجتمعات والتأثير على الوعي الجمعي. فهو سجل لتراث الأمم من العلوم والمعارف عبر العصور.