القاهرية
العالم بين يديك

مسلمات عالقة بين الماضي والحاضر

122

بقلم- رانيا ضيف

التعامل مع قضايا المجتمع خصوصا الشائك منها والمثير للجدل يضع الكاتب في مأزق كبير، فهو يقع بين عدة خيارات أحلاهم مر، قد ينتهج نهج سقراط والذي يرى أن النقد والمساءلة هما السبيل إلى كشف الحقيقة وتحفيز العقل على التفكير المستقل، فالنقاش حول المسلمات قد يثير الجدل لكنه ضرورة لتفكيك الأفكار السائدة وإعادة بنائها على أسس أقوى وأكثر استنارة.
أو قد يؤثر السلامة ويتبنى رؤية شوبنهاور ويرى أن المجادلة حول الأفكار الراسخة لا تؤدي إلى تغيير فعلي بل تزيد الأمور تعقيدا خصوصا أن البشر بطبيعة الحال يقاومون التغيير.
أو يستلهم من كانط رؤيته حول الواجب الأخلاقي تجاه مجتمعه، فالفعل الصحيح ليس بالضرورة الأسهل أو الأكثر قبولا ولكنه واجب الكاتب
فقد تبدأ الرؤى المختلفة كفكرة معزولة وتتحول مع الوقت لبذرة التغيير والإصلاح إذا وجدت الاستعداد والقبول لاستقبالها وتحليلها.
فيجد الكاتب نفسه بين خيار إثارة التفكير النقدي أو الصمت حرصا على الهدوء المجتمعي أو طرح رؤى ونقاش قد يكون مفتاحا للإصلاح.

ولو تأملنا الموضوعات التي تثار في الآونة الأخيرة والتي كنا نظنها بديهيات غير قابلة للجدل إنما تمليها علينا فطرتنا السليمة لاقتنعنا أنها تشير إلى اختلال موازين القيم وتصدر الغوغائية المشهد.

منذ زمن، كانت العديد من الفتاوى المتعلقة بالمرأة مفجعة، لا نستطيع حتى أخذها على محمل الجد. لكن المؤسف أن يحاول البعض اجترار الماضي وسحب هذا العصر ليفرضه في زمننا هذا!
لقد تخطينا حدود الفطرة السليمة والمألوف، حتى أصبحنا نهدد إنسانيتنا بانحرافنا عن الطريق الصحيح. يبدو أن هناك حاجة ماسة لأن نتوقف قليلاً ونتساءل: كيف وصلنا إلى هذا الحد؟ وكيف تم إقناعنا بأن ننحي عقولنا جانبًا ونسمح لغيرنا بأن يسيطر أو يقحم رأيه في أدق تفاصيل حياتنا؟!

كيف حولت بعض الفتاوى مسار العلاقة التكاملية بين الرجل والمرأة -تلك العلاقة التي أراد الله لها أن تقام على المودة والرحمة – إلى علاقة تنافسية قاسية تُبنى على المنفعة؟
كذلك القوامة؛ التي هي تكليف للرجل والمرتبطة بالقدرة على الإنفاق وتحمل المسؤولية، تحولت إلى وسيلة للتسلط وفرض السيطرة والتحكم!
كيف وصلنا إلى حد انعدام الإنسانية لدرجة أن تسأل امرأة الشيخ عن حكم زيارة أبيها المسن الذي يحتاج إلى رعاية بعد تعرضه لحادث، وزوجها يرفض، فيجيب الشيخ بكل ارتياح: ” أطيعي زوجك!”.
ونتيجة لذلك الخلل ظهرت دعوات بعدم إلزام الزوجة بخدمة زوجها أو رعايتها لبيتها!
وعلى الجانب الآخر دعوات أكثر حدة تنادي بعدم إلزام الزوج بعلاج زوجته المريضة إنما تعود لأهلها ليعالجوها!
والجميع يتصيد من التراث ومن الفتاوى القديمة ما يتفق مع ما يتبناه من قناعات! وتتجدد هذه الموضوعات كل فترة وتطفو على السطح وتتصدر الترند وتلقى رواجا وقبولا لدى الأجيال الجديدة على أنها أحكام إلهية وتلك هي المشكلة!

وإذا حاولنا تفسير أسباب تلك الفتاوى سابقا
لعرفنا أن هناك أعراف مجتمعية أحاطت بالأئمة وأثرت على فهمهم للنصوص ونتج عنها فتاوى مناسبة لذلك العصر، لا ندينهم أو نلوم عليهم لأنهم عملوا طبقا لما توفر لهم من معطيات حينئذ وما يتناسب مع زمنهم ومجتمعهم.
فالمرأة كانت تابعا لولي أمرها أو زوجها، بل كانت كالمتاع، ولم تكن بعقلية ووعي وحرية واستقلالية اليوم. ولذلك كان يرى الفقهاء أن دور الزوجة يقتصر على المتعة الجسدية والإنجاب وكل ما يعيق تأدية ذلك الدور من مسؤوليات المنزل والخدمة فهي ليست ملزمة بها!
العجيب أن يتبنى هذا الرأي بعض النسويات ولا أعلم إن كن يعلمن خلفية تلك الفتاوى من عدمه!
ومن نفس المنطلق أفتى البعض بعدم إلزام الزوج بعلاج زوجته المريضة لأن الهدف الأساسي من وجودها معطل وبالتالي لا يجب عليه علاجها!
والسؤال الذي يفرض نفسه؛ هل هذه علاقة تبنى على المودة والرحمة؟
هل تمت بصلة لمفهوم الرجولة والشهامة والكرامة؟!
هل تبنى الأسر في مجتمعنا على المنفعة المتبادلة المجردة من مشاعر الحب والألفة والسكن؟!
عندما يفتي البعض الآن بهذه الفتاوى فهو مغيب،
لم يحسن فهم فقه الواقع ولا تطورات العصر ومستحدثاته واختلاف الأزمان وتطور الوعي الإنساني!
العلاقة الزوجية علاقة مقدسة تبنى على المودة والرحمة والمحبة والثقة والاحترام والتقدير المتبادل، يتفانى الزوج في إسعاد زوجته وأبنائه ويوفر احتياجاتهم ويحمل على عاتقه مسؤولية قيادة بيت بالحكمة والعقل.
والزوجة بدورها تقوم برعاية زوجها وبيتها وأولادها بمحبة وبما يناسب قدراتها وطاقتها.
ويكون الزوج في مهنة أهل بيته أسوة برسول الله، فكان صلوات ربي وسلامه عليه يحيك ثوبه ويخصف نعله، ويحلب شاته، ويعجن العجين، ويشارك في أعمال المنزل.

إذا كانت الأمم تسعى للتقدم، فهل من المعقول أن نكون ما زلنا نناقش بديهيات مثل دور المرأة والرجل أو كيفية التعامل مع الحقوق والواجبات؟ ألا ينبغي أن نكون قد تجاوزنا هذه المراحل لمناقشة قضايا أعمق وأهم؟!
كيف يمكن أن نحدث نهضة حقيقية دون مفكرين حقيقيين قادرين على مواجهة هذه القضايا من منظور عقلاني وإنساني؟

إذا كان هذا هو المستوى الذي وصلنا إليه في التعامل مع القضايا البسيطة، فكيف سنتمكن من التقدم في القضايا الكبيرة؟ وكيف نتوقع من مجتمع يسوده التسلط أن يفهم معنى الرأفة بالآخرين؟!

أصبح الأمر لا يتعلق فقط بالمرأة، بل أصبحنا بحاجة إلى مراجعة جذور هذه الفتاوى التي تحاول فرض أحكام غير منطقية في حياتنا.
وما يزيد الطين بلة هو إنكارنا للعلم!
تتصاعد الأصوات التي تنكر حتى الحقائق العلمية المثبتة. حين خرج علينا أحدهم مؤخرا ليعيد قضية نفي كروية الأرض، ويستخدم عشرات الآيات ليثبت وجهة نظره القاصرة، ويتهم من يخالفه بالكفر، نصل إلى حالة من الانغلاق الفكري الذي يدمر كل ما وصلنا إليه في السنوات الماضية. هل أصبحنا نعتمد على تفسيرات دينية ضيقة للبعض ونترك العلم الذي يمكن أن يقودنا نحو فهم أعمق للعالم؟
إذا كانت تلك الفتاوى تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في حياة الفرد، فهل يمكن أن نتوقع مجتمعًا سويًا في طريقه للنهضة؟
يُذكر ‎أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَرَّ بقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ،فَقالَ: لو لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ قالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بهِمْ فَقالَ: ما لِنَخْلِكُمْ؟ قالوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ.
‏‎الراوي : أنس بن مالك | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم
الحديث يعكس توجيه النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأمور المتعلقة بالدين هي من مسؤوليته في التوجيه، أما الأمور الدنيوية مثل الزراعة أو التجارة، فهي مجال خبرة الناس وتجربتهم.
إذًا رجال الدين ليسوا أوصياء على الناس، بل دورهم أن يكونوا مستشارين ومساعدين عند الحاجة، فما الداعي لاقتحام بعضهم أدق تفاصيل الحياة للناس أو إبداء الرأي في موضوعات ليست من شأنهم سواء بعلم أو بغير علم!
جاء الدين لينظم العلاقات الإنسانية ويضع أطرًا عامة للعدل والمساواة، وليحث على مكارم الأخلاق، وليس لنسأل في كل صغيرة وكبيرة تدور في حياتنا وكأن الله خلقنا بلا عقول نفقه بها ونقيم الأمور!
إن تفسيرات المفسرين قديمًا وحديثًا ليست هي الدين ذاته، بل هي مجرد رؤى واجتهادات تعتمد على فكر الأفراد. يجب أن نميز بين الدين كجوهر والآراء التي قد تصيب وقد تخطئ.

ستظل هذه القضايا المثيرة للجدل تتصدر المشهد كل فترة طالما لم نتعامل معها من جذورها. علينا أن نعود إلى الأصل ونفهم أن الدين، في جوهره، جاء لإرساء قيم العدل والرحمة، وليس لفرض سيطرة أو تحكم أو لتغليب جنس على الآخر أو فئة على فئة!
إن حسم هذه القضايا بشكل جذري بات ضرورة ملحة حتى يكونا العقل والرحمة هما الموجهان الرئيسيان في حياتنا.

قد يعجبك ايضا
تعليقات