القاهرية
العالم بين يديك

..كيف تُراق دماء الأحلام على قارعة الطريق ؟

70

بقلم/ انتصار عمار

كان طفلًا صغيرًا لا يتجاوز العاشرة من عمره، يحيا مع أسرته بحيٍ شعبيٍ بسيط من أحياء شبرا.

في شقة متواضعة تركها لهم الأب بعد وفاته، وكانت هي الشئ الوحيد الموروث الذي توارثوه عنه.

ولم يكن هذا الطفل هو الطفل الوحيد لهذه الأسرة، بل كان هو واسطة العقد، فقد كان يتوسط أخواته.

فهناك أخت كبرى تكبره بعامين، كما لديه أيضًا أختٌ صغرى تصغره بثلاثة أعوام.

ولم يكن لتلك الأسرة دخلٌ سوى قوت يومها ،والذي كانت تُحصله من عمل هذا الطفل، الذي اختارته الأقدار ليكون هو رب هذه الأسرة، والعائل الوحيد لها بعد وفاة والده.

ورغم صغر سنه، وأنه لم يكن هو الأكبر سنًا مقارنةً بأخته الكبرى، إلا أن هذه الأسرة كانت تحكمها مبادئ، وتقاليد، وأخلاقيات معينة، لا تتيح للبنت أن تعمل في سن صغيرة.

ورمت به الأقدار في غيابات الحياة، وألقت به في ظُلمتها، وأخذت تتخبطه تياراتها، وتتصارعه أمواجها المتلاطمة.

وقست عليه الحياة، وألبسته ثياب الكهولة باكرًا، في ريعان طفولته، وسلبته ملامح تلك الطفولة البريئة التي كانت ترتسم على وجه الزمن.

حينما رسمت بعينيه خيوط الأسى، وأحاطته بسياج الحزن، وأسدلت الستار على مسرح الطفولة التي لم يقف يومًا على خشبته.

ولم يعشها كسائر زملائه، من بنفس عمره.

فخرج الطفل الصغير ما دون العاشرة من عمره إلى أرض الحياة، وبين جنباته حسرة أمه لفراق أبيه، وعجزها أمام سد إحتياجات صغارها، وتوفير حياة كريمة لهم، ولوعة قلب أختيه.

خرج حاملًا على عاتقه فأسه التي يرم بها بقوةٍ فوق أرض الآلام والأوجاع.

فتُخرج له ثمارها، فتسد جوع أمه، وإخوته.

وكانت هذه الفأس بمثابة كده، وعمله الذي يبحث عنه؛ ليناسب عمره، ويتناسب مع دراسته.

ولأنه كان محبوبًا من قبل جيرانه بسبب حسن خلقه، وسمت طباعه، تعاطفوا معه، وأخذوا يبحثوا له عن عمل.

وبالفعل وجدوا له محل بيع عجل، فأخذ يعمل به إلى جانب دراسته بالمدرسة.

ولم يتنازل هذا الولد عن إستكمال تعليمه، فقد كان طفلًا ذكيًا محبًا للعلم، لديه طموح، يحلم بأن يمتلك عصا سحرية تبدل حاله من حاٍل إلى حال.

وتنقله من مكاٍن بسيطٍ بحي شعبيٍ متواضع، إلى شقةٍ جميلة، بها متسعٌ له، ولأمه، وأخواته.

كان دومًا يصبو لتحقيق حلمه بأن يكون معيدًا بالجامعة.

تُرى ماذا الذي يخبئه القدر لهذا الطفل؟

وماذا بجعبته؟

وما الذي يسوقه إليه ركبُ الحياة؟

أيحالفه الحظ؟ أم أن الفأس التي حملها هذا الطفل على عاتقه حينما خرج لضجيج الحياة، وصرخات أوجاعها لن ترم الأرض فقط، وإنما ترم صاحبها أيضًا؟

لقد كان هذا الولد طفلًا شغوفًا ومفعمًا بالحياة، يعشق روح القراءة، بل و يجد نفسه بين صفحاتها.

وكان رغم صغر سنه، إلا أنه يتمتع بإتساع أفقه، وكثرة إطلاعته، كما كان يتميز بروح المثابرة والتحدي، فكان المستحيل لا يعرف طريقًا إليه، فكلما أُغلق بوجهه باب، لا تَفتُر عزيمته، وإنما عمد لآخر.

فبعد أن عمل الولد في محل بيع العجل لسنوات، قرر صاحب المحل غلق هذا المحل، والرحيل إلى منطقة أخرى، وكانت هذه أول صفعة من القدر لهذا الولد بعد وفاة أبيه.

فأصبح بلا عمل؛ كيف له إذن أن يعول هذه الأسرة؟ وكيف يتأتي لأختيه أن تستكملا دراستهما؟

لكنه لم يستسلم لصفعات القدر المؤلمة، إنما ذهب على الفور لصاحب مكتبة، تقع بجوار مدرسته، وطلب منه العمل.

وبالفعل وافق الرجل العجوز و عطف على الولد ووظفه معه؛ ليساعده في عمل المكتبة، ولم يكتف الولد بالعمل في المكتبة فقط، إلا أنه عمد إلى معرض سيارات كبير، حيث عمل هناك “كجرسون” بكاڤيتريا المعرض ؛ يقوم بتقديم المشروبات للزبائن.

ومرّت الشهور على هذا الحال، والولد ما بين المدرسة، والعمل في المكتبة، ومحل السيارات.

كانت تبدو أيامًا هادئة، تمر بسرعة خاطفة، لكن هذا ما كان ظاهرًا للناس، أما عن الولد؛ فقد كانت تتناوبه المخاوف ألا يقوي على الصمود في وجه صفعات القدر، والتفكير الدائم في محاولة الإجابة عن سؤال ؛ من لأسرته من بعده، لو أصابه مصاب؟

وانتهت هذه الأيام والشهور الطوال التي لا حد لها، وبدأت بداية جديدة تخط أول شعاع أمل بأفق السماء، ألا وهي؛ مرحلة الثانوية العامة.

فلقد اجتاز الولد مراحله السابقة بتفوق أشاد به الجميع، فقد كان تلميذًا نابغًا؛ لذا تنبأ له الجميع مستقبلًا باهرًا.

وكان هذا الولد رغم إنغماسه في بحور الحياة وأمواجها العاتية المتلاطمة، إلا أنه كان أبًا حنونًا لأختَيه بعد أن فقدوا والدهم، وابنًا مطيعًا لأمه، وكان على قدر المسئولية التي أُلقيت على عاتقه، وكان لا يحارب تقلبات الزمن إلا بابتسامة رضا، تصافح وجنتيه.

وكعادة الحياة دومًا لايؤتمن مكرها، فإذ بالولد يخسر عمله في معرض السيارات؛ بسبب بقائه في المدرسة لوقت طويل، مع عمله بالمكتبة، فأخذ يبحث عن عمل إضافي، حتى صادفه رجل جاءه ذات يوم يشتري بعض الكتب المدرسية لأولاده، وشكى له بعض همومه معهم، وهي؛ أن أطفاله بحاجة لدروس إضافية؛ لكن جميع المدرسين أسعارهم مبالغ فيها، فاقترح عليه الولد أن يقوم هو بإعطائهم الدروس ،وذلك مقابل مادي يكون بمقدور هذا الرجل .

فأصبح يعطي دروسًا لأطفال ذلك الرجل، وأيضًا لمجموعة غيرهم، وبذلك استطاع أن يكمل هو وأختَيه تعليمهم.

ولأننا كبشر أعتدنا أن نستعجل الفرحة، ونختطفها من يد الزمن ،فبعدما انتهت كل هذه الصعاب، مضى الوقت سريعًا.

وها هو اليوم جاء القدر مرتديًا حُلة الثياب، ثياب البهجة والسرور ، كي يعانق الولد الذي أصبح شابًا يافعًا، ويرقص فرحًا بإحرازه مجموعًا كبيرًا؛ وهذا يعني أنه سيحقق حلمه حتمًا، فرحت أخته الكبرى التي صارت تدرس بالفرقة الثانية بكلية الطب، وأخته الصغرى التي كانت على أعتاب الثانوية العامة، وأمه التي كان الدمع يتراقص فرحًا بعينيها، و فخرًا بصغارها،
الذين اشتد عودهم ، وأصبحوا لا يخافون الموج، كما كانوا صغارًا.

والتحق الشاب بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية ، وكان الأفضل والأكثر تميزًا على أقرانه، رغم ضيق وقته في العمل ،والتدريس لأطفال جيرانه بالحي، كما أن زملائه في الجامعة يطلبون منه المساعدة، إلا أنهم طلبوا منه أن يستذكر لهم محاضراتهم ودروسهم.

ولم يكن الأمر قاصرًا على أصدقاءه فقط، فلقد طلب منه جميع الطلاب الذين هم دون عمره أن يدرس لهم ،نظرًا لتميزه وتفوقه، ورغم جَهده وتعبه، إلا أنه كان يسعد كثيرًا وهو يلعب دور المدرس لطلابه.

وأصبح الشاب على مشرفة من تحقيق حلمه، فلقد تخرّج من الكلية بدرجة إمتياز، ترقرق الدمع في عينيه ،لحظات خاطفة تمر أمام عينيه ،يمتزج فيها وجع السنين وتلك الفرحة، كده وجهده ،وتكليل هذا الجَهد بالنجاح والتفوق، لم يستطع التفوه بأي كلمة سوى ركعة ،سجد الله فيها شكرًا.

وتقدّم الشاب ليكون معيدًا بالجامعة التي درس بها، كما هو معهود، ومتعارف عليه لأي طالب يتفوق على مدار سنوات دراسته، والجميع يشهد له بذلك،من أساتذة، ودكاترة، وأصدقاء كان يستذكر لهم دروسهم.

لكن يبدو أن للقدر كلمة أخرى في ذلك ، فقد جاء اليوم المنتظر، اليوم الذي سيسطر أحرف النهاية، ويحفر دموعًا لا تجف بعين السماء، وأنينًا في قلوب نجومها.

وقبل أن يذهب الشاب إلى جامعته، قبلته أمه، وكأنه تطبع على خديه قبلة الوداع،
وعانقته طويلًا، وكأن عناقها يخبره ألا تذهب يا ولدي، كان ثمة شئ بصدر الأم يحدثها، شئ يؤرقها، كان عناقها به شيء غريب، كأنها تتوسل إلى القدر فيه ألا تفعل لأجلي، وما استطاعت الأم أن تترجم مخاوفها وقلقها الشديد على ابنها سوى أن تستحلفه أن ينتبه لحاله جيدًا، كانت تريد أن تمنعه،لكن كانت تخشى أن تكون عقبةً دون تحقيق حلمه، فتركته يذهب بقلب منفطر، لا يدري
تفسيرًا لما يحمله صدرها.

كان يشعر تجاه عناق أمه الطويل، وحديث عينيها له ، شيئًا ما يبدو مريبًا
شيئًا غامضًا، أيضًا كلمات أمه له؛ أن ينتبه لنفسه جيدًا، وألا يتأخر عليها، لكنه حاول أن يسيطر على كل هذه الأفكار التي ستجوب رأسه، وطمئن والدته؛ وأخبرها أنه سيعود إليها فور إنتهاءه من إجراءات التقديم.

وخرج مع أختيه الكبرى، لتذهب إلى المستشفى التي تتدرب بها، والصغرى؛ ليوصلها إلى الجامعة التي تدرس بها،

وفي باب كلية الصيدلة ودّعته وتمنّت له حظًّا موفقًا، ثم ذهب بكل بشاشةٍ ليُقَابل بظلم الحياة، فقد تم تعيين شاب آخر من نفس الدفعة ليُصبح هو معيدًا بالجامعة،
رغم أنه أقل كفاءة منه، وأقل تقديرا، إضافةً إلى أنه هو من كان يستذكر له دروسه ومحاضراته، وتم رفض الشاب المجتهد المتميز ،الذي لطالما كابد الحياة ببوتقة أعبائها المتحاملة عليه.

تم رفض الشاب كمعيدًا بالجامعة ،بأعذار وحججٍ واهية، لوهلة أصبح يشعر أن الزمن توقف، كان يريد أن يصرخ:
كيف له أن يسرق حلمي بنقوده؟

ماذا أخبر أمي الآن؟

أضاع حُلمي في أن أكون معيدًا؟

أهذا هو العدل والإنصاف؟

وكأنه كتم كل ما يدور به من انفعالات داخل سرداب قلبه، أما عقله فلم يستوعب ما يحدث، فأنقذت قدماه الموقف، وخرج مسرعًا من ذاك المكان، وبعيدًا عن كل ما يحدث، لا يعلم لأين وجهته؟ وإلى أي دربٍ يسير؟

لكن عليه أن يُسرع في الإقلاع عن هذا المكان ،الذي سُفكت فيه دماءُ حلمه.

قاطع شرود فكره صوت اصطدام السيارة ،
فقد صدمه سائق سيارة كان يعبر الطريق، ركض الجميع نحوه، لكنه كان لفظ أنفاسه الأخيرة، وودّع تلك الحياة القاسية بدموعٍ حارة تُشعل حرارة الأرض.

مات الحُلم، ومات ربان السفينة، “رب الأسرة”، مات من كان يضحي بروحه من أجل الآخرين.

رحل كغيمة كادت أن تمطر، لكن الرياح حملتها سريعًا وأودت بها مهب الريح، ولم يعد لها أى أثر سوى قطرات دمٍ لحلم مسكوبة على الأرض،تحتضن ثراها.

ودفتر صغير، وقع من حقيبته، يحمل مذكراته، التي تحوي بآخر ورقة تساؤلًا:
كيف أصبر لتأتي تلك اللحظة؟

سأحقق حلم طفولتي وأصبح معيدًا في الجامعة، الساعة الآن الثالثة صباحًا، ولا أستطيع النوم، تبقّت ساعات فقط، لتعلن شمس اليوم عُرسها بميلاد يوم جديد، تزف لي فيه بشرى حصولي على لقب “المعيد”.

قد يعجبك ايضا
تعليقات