القاهرية
العالم بين يديك

ماذا لو عاد الزمانُ يومًا؟

79
بقلم /انتصار عمار
أيامٌ جميلةٌ مضت، وعمرٌ مر كسرعة البرق، خاطفًا معه كل جميلٍ، حاملًا في طياته أحلى ذكريات، لم ولن تعود، ذكريات الطفولة.
كنت أصحو من نومي، أذهب إلى مدرستي، والتي كانت تقرُب من البيت، أحضر مبكرًا قبل أن يقوم البواب بإغلاق بوابة المدرسة.
وحتى أحضر طابور الصباح، والذي كنا نتغنى فيه بأنشودة “مصر”، كم كنت أعشقها، وأتغنى بها، وأستمع إلى الإذاعة المدرسية، ثم نذهب إلى الفصول، وأجلس مع زملائي على المقعد، نستمع إلى شرح المدرس، وكنت أعشق حصة اللغة العربية، وأنتظرها بشوق، فقد كنت أعشق مادة اللغة العربية، عشقًا لا يضاهيه عشق.
وكأنها لصيقٌة بروحي، خاصًة قواعد “النحو”، عكس كل أصدقائي، فجميعهم منذ الصغر يكرهون قواعد النحو.
أما عني، فكنت أنفرد بعدم حبي لمادة “الرياضيات”، وأشعر أن مدة حصتها تطول، وتمتد، وتتوغل.
بل وكنت أتمنى أن لو يتم إلغاء هذه المادة من المقرر المنهجي، كان هذا أقصى ما أتمناه في هذه المرحلة.
لقد كنت تلميذة محبة للعلم، خجولة جدًا، لكن رغم خجلي هذا، إلا أنني كانت تُظللني روح المرح والدعابة مع زميلاتي.
وكان أستاذي يُشيد دومًا بتميزي، واهتمامي بمظهر كتبي، كذلك كراساتي، وطريقة تنظيمها، وتسطيرها، وزخرفتها.
وفي تمام الساعة العاشرة صباحًا، يدق جرس الفسحة، ونذهب أنا وزميلاتي إلى كانتين المدرسة، لنشترى بعض ساندوتشات، وبعض الحلوى والبسكويت.
ثم يدُق الجرس مرًة أخرى، ليعلن العودة لإستئناف اليوم الدراسي، ثم يدق مرة أخرى،ليعلن انتهاء اليوم الدراسي.
ومن المضحك في ذاك الوقت، هو أنني رغم صغر سني، وضآلة معلوماتي، إلا أنني كنت أحس حالي دومًا؛ وكأنني حصلت على درجة الماچستير، نظرًا لكثرة حبي للعلم، والتعلم .
فكنت أشعر وكأنه عالم غريب، جديد علي، أتلقى من خلاله مجموعة من المعلومات، والتي أتعرف عليها لأول مرة، وكنت أسير بها إلى البيت، فأقصها على أبي، وأمي؛ وأنا أرتدي ثوب الفخر لما حصُلت عليه من معلومات.
وبعد عودتي للمنزل، وخلع ملابسي المدرسية، أقوم بكتابة واجباتي المدرسية أولًا، ثم أتناول وجبة الغداء .
ثم يحين موعد الليل، ويطرق بابي، حاملًا معه بستان سعادتي، حيث وقت اللعب مع أصدقائي من الجيران.
وبعد أن أُنهى وقت اللعب، وقبل أن يداعب النوم أجفاني، أذهب إلى عالمي المذهل، عالمي البراق.
عالمي المتحرك، الذي يسافر بي في شتى بقاع الأرض، ويصطحبني معه في رحلة طويلة، ولا أعلم إلى أين؟
لكني أجوب مدًنا، وبلدانًا عدة، إنه جهاز التلفاز، ذلك الجهاز المبهر، كنت أجلس أمامه، وأشاهد الأفلام العربية ذات الطابع الكوميدي، وكذلك التي تتسم بالرومانسية، وأفلام الكارتون، وأفلام الخيال العلمي والخرافات.
وكنت لا أقوى على مشاهدة أفلام العنف والضرب، والحدة والقسوة، فلم تكن تستهويني، وكانت تؤذي مشاعري، فكنت أمتنع عن مشاهدتها، لأنها تُبكيني بشدة، وتترك ألمًا بقلبي.
وحتى الآن لازلتُ أتذكر أخي، وهو سهرانٌ معي ذات ليلة، نشاهد فيلمًا ما، وكان به مشهد مؤثر، وإذ بأخي يلتفت ليجد دموعي تحتضن وجنتي، ومن شدة خجلي أقوم بتجفيفها سريعًا حتى لا يراها، ولم أنتبه إلى أنه رآها، إلا عندما فوجئت بصوت ضحكته، وهو يتعجب لبكائي على شيء ليس بحقيقي.
ومن الطريف؛ أنني بهذه المرحلة المبكرة من العمر كنت أظن أننى لو فتحت جهاز التلفاز هذا، لرأيت كل الممثلين به، ولجلست معهم، وكأني في بيتهم، تفكير غريب حقًا، لكنه كان دومًا يراودني، ولولا خوفي أن أنال عقابًا شديدًا من أبي وأمي، لكسرت شاشة التلفاز، وفتحتها، لأستكشف هذا العالم الرائع بها.
ولقد كنت أيضًا بهذه المرحلة من العمر، أدندن ببعض مقاطع الأغاني،وربما يكون هذا أمرًا طبيعيًا لطفلة في مثل عمري.
لكن الغريب؛هو أنني كان دومًا يراودني أغنيات من تأليفي، وكأنني كنت أستمع إليها عبر أثير قلبي.
وكنت أتغنى بها،ومما لاشك فيه أن هذا الأمر قد استوقفني كثيرًا،
وكنت أتعجب من شأنه، حتى أنه يحضُرني موقف حدث معي حينذاك، ولا أنساه ما حييت .
كنت مرضت ذات يوٍم، وذهبت بي أمي إلى الطبيب، وأعطاني دواء، كي أطيب.
وكلما حان لقائي مع زجاجة الدواء، كنت أتخفى سرًا عن عين أهلي، وأرم ببعض منه بعيدًا.
وذات مرٍة؛ تحالف ضدي الحظ، وشاهدتني أمي وأنا أقوم بتفريغ زجاجة الدواء، حتى يظنوا أنني
قد انتهيت بالفعل من تناول الدواء، لدرجة أن الزجاجة فرغت.
وغضبت أمي من هول ما شاهدته، هذا من وجهة نظرها هي، وسألتني والغضب يظلل ملامح وجهها؛ ماذا تفعل بزجاجة الدواء؟ أترمينه على الأرض؟
ولماذا كنا نذهب للطبيب بعد؟
فوجدت نفسي ودون أن أشعر، أجيبها بمقطع غنائي من تأليفي،
إعتراضًا على شرب الدواء.
وعاودني الحظ مرًة أخرى، ولكنه هذه المرة يتحالف معي ضد علقٍة ساخنة، حمدًا لله حرمت منها.
فإذ بأمي تضحك عندما سمعت أنشودتي الصغيرة، التي قمت بتأليفها استهجانًا، واستنكارًا لشئ اسمه الدواء، ونجوت من العقاب.
سنوات جميلة، كان عمرها قصيرًا، كعمر كل شٍئ جميل، لا يدوم عمره طويلًا.
فماذا لو عاد بيّ الزمان يومًا؟
وعدت الطفلة الصغيرة، ذات الضفائر الصغيرة،ذات الثمان سنوات.
عاشقة الغناء، والتمثيل، مشروع فنانة صغيرة، لم يكتمل، وألتقي بزملاء الطفولة، وأعانق روح المرح،واللهو فيهم، وأعود وفريق الزهراء الذي كنت مشتركًة به.
ونقدم من خلاله عروض، تُقدم على خشبة المسرح بالمدرسة،ماأجمله من عمٍر!
لو عاد؛ لعاد إلي عالمي الصغير، عالمي الملائكي.
قد يعجبك ايضا
تعليقات