القاهرية
العالم بين يديك

في أثر عنايات الزيات

96

 

بقلم / انتصار عمار

يعد كتاب “في أثر عنايات الزيات” واحدًا من الكتب الفريدة من نوعها، وهو كتاب يتسم بنمط’التقصي الأدبي’، فهو كتاب سيرة للكاتبة الأديبة “إيمان مرسال”، الكاتبة المصرية، والتي تحيا “بكندا”، وأتت زيارة لمصر في التسعينات، وأثناء تجولها حول سور الأزبكية، وقعت عينها بطريق الصدفة على رواية “الحب والصمت” للكاتبة “عنايات الزيات”.

شيء غريب حدث معها حينها، وكأن تلك الرواية يسكنها طيف خفي، يحدثها، ويجذبها إليه، فقرأت “إيمان مرسال” الرواية، وشعرت أنها ترى فيها نفسها، وأنها وجدت شبيهًا لها في عالم آخر، فعمدت إلى تتبع أثر عنايات الزيات، وكتبت هذا الكتاب عنها.

من هى عنايات الزيات؟

هي كاتبة مصرية،ولدت “بالقاهرة ” ٢٣ مارس ١٩٣٦- ٥ يناير ١٩٦٣،تنتمي لأسرة غنية، ميسورة الحال، وكانت تدرُس بالمدرسة الألمانية.

كانت”عنايات” وسيطة العقد بين شقيقتين ،أما “نادية لطفي”، فكانت وحيدة، لذا كانت تعتبر “عنايات” هي صديقتها المقربة إليها، بل وأختها.

فقد كانا يدرسان معا، ويستذكران دروسهما، ويذهبان إلى السينما سويا، بل ويتبادلان ملابسهما، وكذلك الشنط والاكسسوارات.

ورغم كون “عنايات الزيات” فتاة حالمة، مرهفة الحس، إلا أن الحياة رسمت لها واقعا آخر تعيشه، فقد باغتها القدر بزوج سيء الطباع، عصبي، عنيف.

تقدم إليها،ونال إعجاب أبيها وأمها، ووافقوا عليه، وقالوا لها؛ خلاص، ما فيش تعليم، جالك عريس غني وطيار، وما يترفضش، وأجبروها على ترك التعليم.

وبالفعل تزوجت “عنايات” عام ٥٦ ،وقد كانت بآخر سنة بالثانوية العامة، وكان نتاج هذا الزواج القاسي طفلا إسمه “عباس”، على إسم والدها.

وبعد ثلاث سنوات من الزواج، طلبت “عنايات” الطلاق، وذهبت إلى بيت أهلها، وعاشت معهم، وسلكت طريق المحاكم لأجل الحصول على الطلاق، وقررت أن تبدأ حياة جديدة، حياة تحقق فيها ما يسعدها هي، وليس ما يسعد الناس.

فعملت بالمعهد الألماني، وبدأت تكتب أول رواية لها”رواية الحب والصمت”.

بطلة الرواية اسمها “نجلاء”، وصاحبتها وكاتمة أسرارها اسمها “نادية “، وفيه إشارة ل”نادية لطفي”.

أرسلت “عنايات” الرواية للدار القومية للنشر، لكن للأسف لم تلاق الرواية إستحسانا وقوبلت بالرفض.

وكانت “عنايات” تستطيع نشر هذه الرواية من مالها الخاص، ولكنها لم تفعل، لأنها كانت تريد الإعتراف بها كأديبة.

وللأسف الشديد تواصلت “عنايات” مع الكثيرين لنشر روايتها، ولكنهم لم يبالوا بشأن هذه الرواية، وقاموا بتهميشها، ثم جاءها الرد ؛أن هذه الرواية لا تصلح للنشر.

وكان هذا هو أول سهم أُطلق بصدر الكاتبة “عنايات الزيات”، والذي دمر جزء كبير من نفسيتها، ولم يكن هذا فقط ما يُخبئه القدر وراء ستاره المنسدل ل “عنايات”، ولم يكن هذا فقط نصيبها من سراديب الحزن والأسى، فقد توافدت عليها كل الوفود، وتوالت تباعًا تباعًا.

فبعد أن حصلت”عنايات” على الطلاق ،ذهبت لتعيش في بيت أهلها، هي وابنها.

ثم آتاها القدر مرة أخرى، لكن بثوب حالك السواد، مخيف المنظر، وبمنتهى الحدة قام بتصويب سهمه الثاني بقلب “عنايات” وليس بصدرها.

فقد أدلى محامي زوجها بمستندات تثبت أن “عنايات” تتعالج نفسيا، وبالتالي تؤول حضانة ابنها الوحيد ذي السبع سنوات لزوجها.

فقد كان صغيرها “عباس “يعيش معها،
ويتردد على زيارة أبيه وزوجته الجديدة من حين لآخر، وكانوا يبثون داخله روح الكراهية لأمه من خلال أحاديثهم الكاذبة،حتى استطاعوا جعل قلبه أرضا خصبة لهذا.

وبالفعل كره الولد أمه، وذات يوم عاد إليها، لتستقبله بذراعيها الحانية، كي تحتضنه كل حواسها، وإذ بالولد يحدثها؛ إزيك يا طنط.

وكان هذا هو السهم الفتاك الذي نال من “عنايات”.

شعرت أنها ليست بحاجة لحياتها، وأنه لا داع منها على الإطلاق ، بعد أن توشحت سماؤها باللون القاتم، وارتدت ثوب الحزن، ونظارة الإنكسار.

وجاء يوم عيد ميلاد صديقتها “نادية لطفي”، وطلبت “نادية ” من “عنايات” أن تذهب إليها، لتقضي طيلة اليوم معها.

فقالت لها “عنايات”؛ لا.سآتيك في الغد، ونامت “نادية “، واستيقظت على صوت جرس التليفون، وإذ بوالدة”عنايات” تتصل لتسأل عن ابنتها”عنايات”، وتقول لها: “عنايات” عندك كل هذه المدة ؟ أرسليها لتعود، لأنها تأخرت.

أجابتها “نادية”؛ “عنايات” لم تأت من الأصل، تعجبت الأم بشدة وقالت:كيف؟
هي تركت لي إبنها “عباس”، وقالت؛ إنها ذاهبة إليك كي تقضي اليوم معك.

ودب القلق في نفس “نادية”، واشتعلت نيرانه، وذهبت لتبحث عن صديقتها المقربة “عنايات”، وإذ بها تجدها جثة هامدة ملقاة على الأرض بشقتها.

ماتت “عنايات”، بعدما ابتلعت علبة الأقراص المنومة، انتحرت لأنها لم تقو على الصمود أمام يد المجتمع الباطشة، ماتت “عنايات” ضحية معاملة أهلها، والتفكك الأسري بها، وعدم وجود يد حانية تمتد لتحتضن آلامها.

ماتت الرومانسية والرقة، حينما ارتطمت قدماها بأرض الجفاء والجمود، حينما تزوجت من رجل معدم المشاعر والأحاسيس.

ماتت “عنايات” حينما أصدر القانون حكما بعدم صلاحيتها كأم، وسلبها الحياة.

ماتت “عنايات” وكانت بالأمس “ميتة روايتها ،لم يكتب لها أن تخرج للنور إلا بعد رحيل “عنايات”

غادرت “عنايات” تلك الحياة القاسية، ذات المخالب والأنياب القاتلة، ولكنها قبل أن تغادر ، تركت رسالة لإبنها مكتوب بها ؛ ” أحبك ،الحياة غير محتملة ،سامحني”.

شيء مؤلم وقاس لدرجة أنه يُعجِز القلم عن وصفه.

“نحن لا نملك أحدا، ولا يملكنا أحد، الحياة تتغير، والأشخاص، ولا شيء يبقى حتى الأبناء، حتى الذين تكونوا بداخلنا، وتغذوا على دمائنا، ودفعنا ثمنهم آلام المخاض المروعة، حتى هذا الذي ورث بعض صفاتي، وملامحه ملامحي، حتى هذا الذي ابتسامته ابتسامتي، واصبع قدمه الصغيرة المعوجة مثلها بقدمي، حتى هذا الذي أرضعته مع اللبن حبي، حتى هذا الذي أُرقت لينام، حتى هذا يتغير، حتى هذا ينساني ! إنه لم ير الحياة بعد.

هذه الكلمات التي تُدمي القلب، وتُبكي القلم، وتُسيل أدمع الروح ،كتبتها “عنايات” بيومياتها، قبل رحيلها، وبعد أن صُدمت بطريقة معاملة ابنها لها، لذا انتحرت بعدها.

كانت الكاتبة “عنايات” رحمة الله عليها تحيا وكأنها بمفردها في هذا العالم، فقد كانت تعاني آلام الوحدة والعزلة الإجتماعية وسط أهلها.

كتبت”عنايات” في يومياتها؛
أنا منفية عن نفسي، لا أحد قادر على استصدار عفو عن روحي لترجع، فتحس أن هذا الجسد هو وطنها الصغير، لو أستطيع أن أُلغي ذاتي، وأُولد من جديد في مكان آخر، وزمن آخر، ربما وُلدت في الزمن الخطأ.

هذه هي مأساة حياة الكاتبة المرهفة الحس “عنايات الزيات” التي كانت ضحية هشاشتها في مواجهة عالم قاس، لا يعترف بوجود أصحاب القلوب الملائكية.

صاحبة رواية “الحب والصمت”،والتي لم تحيا،وتخرج للنور إلا بعد رحيل كاتبتها،وبالفعل صدرت الرواية عام٦٧ ،بتقديم الكاتب مصطفى محمود.

لم تكتب الأديبة “إيمان مرسال” كتابها “في أثر عنايات الزيات” لتروج لكتابها، وإنما أرادت إعادة الحياة مرة أخرى لرواية قوبلت بالتهميش آنذاك.

وأشارت “إيمان مرسال” في كتابها قائلة؛
إذا أردتم إحياء شخص، فاذهبوا إلى المقابر، وبالفعل ظلت “إيمان مرسال”ست سنوات تقريبا تتبع حياة الكاتبة الراحلة”عنايات الزيات”وتقوم بجمع الحقائق والمعلومات عنها وعن حياتها.

ولقد حاز كتاب “في أثر عنايات الزيات”للكاتبة الأديبة”إيمان مرسال”على جائزة أفضل كتاب سيرة، حيث اتبعت فيه سير التقصي الأدبي.

برأيي؛ أن جميعنا داخلنا “عنايات”، ويحيا يعاني آلام الحياة وقسوتها، وقد تسلبه الحياة شخصا منه، هو روحه، فلا يقو على الحياة بعده، يتوقف الزمن وتتوقف الحياة عند رحيل هذا الشخص.

قد نكون عائلة ببيت واحد، لكن لا أحد فينا يتواصل مع الآخر، وكأن كل منا يحيا بمفرده، لا أحد يهتم لأمره.

وبالنهاية حياتنا ملأى بالكثير من شبيه “عنايات”

قد يعجبك ايضا
تعليقات