بقلم/ محمود أمين
يوم مولده:
لم يكن أحمد كغيره من الصبية، فقد فتح عينيه على اتساعهما يوم مولده على دفاتر وكتب ومحبرة وقلم كانوا لوالده على يمين الغرفة التي قُلب فيها رأسًا على عقب، واستقر نظره بتلك الحالة إلى أن أعادته القابلة إلى هيئته، فصرخ إلى أن فتّش الآفاق بتدوير عينه الصغيرة فيمن حوله إلى أن استقرت حدقته لابتسامة أمه، فوهبته من حنانها وعطف أمومتها بالضم والتقبيل ثم تركته إلى الأبد؛ ليكبر هذا الفقد في نفسه كل يوم مع كبره وسيأتي تأثير ذلك في نفسه فلا نريد أن نسبق الأحداث.
في صباه قال:
أَيَّ مَحَلٍّ أَرتَقي
أَيَّ عَظيمٍ أَتَّقي
وَكُلُّ ما قَد خَلَقَ الـ
لاهُ وَما لَم يَخلُقِ
مُحتَقَرٌ في هِمَّتي
كَشَعرَةٍ في مَفرِقي
عاش معظم صباه في كنف جدته لأمه التي أغدقت عليه من الحب ما تغدقه الجدات على أولاد بناتها، وخصته بالرعاية والحضانة فلم تترك بابًا من أبواب النفع لهذا الصبي اليتيم إلا وقدِمت عليه غير مترددة بمال أو صحة أو حتى سيرة يحملها الريح إلى جيرنها أنها تفضل الصبي عن بقية الأبناء.
نشأ الصبي في نبع أمٍّ لأمه، والأمهات حين يكبرن تفيضُ الرحمات من قلوبهن، فحملت الصبي إلى عمود الشيخ في جامع الكوفة -وهي التي تعلم من أين يأتي النبوغ- وأوصت الشيخ عليه، وقالت: صبّ عليه العلم صبًّا ولتجدنّه لك واعيًا حافظًا ذاكرًا، وقد صدق ظنها ولدها إذ بانت عليها علامات هذا النبوغ من أول الأيام، فلم يكن يوصيه مولانا الشيخ شيئًا إلى التقفه وفهمه على أتم ما يفعل الرجل البالغ، وكان من علم الشيخ وبراعته أن وهبه القرآن، وشيء من الحديث، والكثير من القصائد المذهّبة التي خلدها الزمان، وما اقتضته طبيعة الأدب من معرفة اللغة والإعراب؛ مما كان لهذه التنشئة الأثر البالغ في شخصية الفتى واختلافه عن أقرانه، وحين يكون المورد صافيًا يأتي بذلك بالنفع والعافية على البدن، وأثر حبه للشعر أن يقرضه صبيًّا ولكنه كالبدايات لا يخلو من الرتوش الأولى أو الفكرة التي لم تنضج بعد.
ويقولون إنه إذا سُئل عن شيء في العربية استشهد بكلام العرب من شعرهم ونثرهم، ومن هذه المواقف: سأله أحد الصبية عن معنى القسطل فقال: القسْطَلُ والقَصْطَلُ، بالسين والصاد: الغُبارُ، والقَسْطالُ لغةٌ فيه، وأنشد أبو مالكٍ لأوس بن حجر يرثي رجلاً:
ولَنِعْمَ رِفْدُ القَوْمِ يَنْتَظِرونَهُ … ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِرْعِ والسِربال
ولَنِعْمَ مَأوى المُسْتَضيفِ إذا دَعا … والخَيلُ خارِجَةٌ من القَسْطالِ
ثم تبعه ببيت من شعر عنترة العبسي:
وَاختَر لِنَفسِكَ مَنزِلاً تَعلو بِها … ومُت كَريمًا تَحتَ ظلِّ القَسطَلِ.
في شبابه:
نضج عقله وجسده سويًا، ومر هذا النضج على يده فقوي ساعده فتعلم الرماية والمبارزة، وكان هذا من وراء جدته التي كانت تخاف عليه من رفقاء السوء ومجالسة أهل الهوى، وكانت تحب له مجالس العلماء والذكر والسمر أمام بيته، ولكنه الآن فتيًّا لا يحتويه هذا الحنان ولا يحتمل أن يمكث طيلة الوقت لرغبات جدته، أمسى يخرج متسللًا على حين غفلتها ليلتقي بفتية في نفس سنه، وكل واحد له قصة يجتمعون حول المصارعة وقرض الشعر واللعب بالسيف وركوب الخيل، ومن نبوغه وذكائه المتقد فاق أقرانه في كل ما سلف، ثم أصبحت العداوة تتنكر له في ثوب صديق، وحين يكتشفُ صاحبُ السريرة البيضاء دناءةَ أقرب الأصدقاء إليه، تطول عزلته ويكثر تفكيره؛ فأقام في بيته وإنّ الموقف من صاحبه يجول في نفسه ويحز في قلبه؛ فخرجت الحكمة منه كالطائر الشادي وكأنّ كل ما مر به ما هو إلا بدايات وأسباب لهذه الحكمة التي انطلقت منه كالضوء المنبثق في مفرق السماء آذنة بمجئ الشمس بميلاد شاعر جديد سيملأ سمع الزمان من عجائب شعره.
ومنذ ذلك الحين لم يربط زمام فرسه ولم تهدأ له ثورة. جاب الأرض شرقًا وغربًا في سبيل طموحاته الكبيرة فقد كان حب الرئاسة، والعنجهية التي فخّمت شعور الأنا في صدره، وحلم العروبة التي لن تجتمع إلا على كلمة الحكمة، ولسان المبادئ والمروءة، استطاع بعد ذلك أن يكون شاعر الأرض وفارسها الذي لا يجارى وبلغ من نفوذه أن أصبح اليد اليمنى التي بها يُقضى الأمر، ومنها أن أقام على فرقة من فرق الجيش تحت إمرته يجاهد بها في سبيل إعلاء كلة الحق، فبات شيء من الحلم يتحقق ولكن ليس كله، وبني له قصرًا منيفًا زخرف بأجمل الزخارف وحوى أفخم الأثاث وودع له فيه أبهى الديباج، وهو من بعد ذلك يجتهد في الوصول لإمارة ناحية أو قرية فلم يحقق له أميره ذلك، ولا حتى توفيقه وحسن صحبته ورأيه ومشوراته، فتخلف عن كرسيّه الذي منحه له هذا الأمير ومنصبه الذي رقي، وقصد غيره على أمل القبول، وفتح الأبواب أمام فرسه وعلى نفس الوتيرة التي نكتب عنه في سرد سريع للأحداث؛ عاد صاحبنا بخفي حنين بل عاد هاربًا بعد قصيدة ذم فيها أمير البلاد المقصود، وعلل نفسه بوجهة أخرى إلا أنه بات رهين الحيرة، وعظم النفس التي تفاقمت حتى كبرت من أن تسعها نفسه.
وعلى حين غفلة أتاه أمر وفاة جدته فانكسر عزمه، وانفقلت كبده، وزاد في كمده أن وارى جسدها التراب ولم يكن حاضرًا فعضّ على يديه، وسقط على ركبتيه رافعًا يد الضراعة إلى الله يدعو لها، وفي عينيه عبرات الندم على ترك هذي العجوز التي منحته الحب وأغدقت عليه الرعاية واكتنفته برحمتها، تركها وحيدة ليدفنها غرباء فاعتلى وجهه الحسرة، وأقعده المرض في سيريره وزارته الحمى فباتت في عظامه قيظًا يطهره من سوء ما فعل.
وختم الرجل حياته وبين يديه قصيدة خلدها الزمان وكانت سببًا في مصرعه إذ يقول فيها: أنا الذي نظَر الأعمى إلى أدبي … وأسْمعَت كلماتي مَن بهِ صَمَمُ