القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

كن أنت نفسك

116

 

‌⁩بقلم / انتصار عمار

كل إنسان منا يحمل بين جنباته ماض ،وحاضر يقتسمان فيه،بل و يتصارعان ،أيهما سينتصر ؟
فمنا من يحيا حاضره دون ماض يلتفت إليه ، ويمضي قدماً نحو تطلعاته ويصبو إلى تحقيق ذاته ،ومنا من يحيا ماضيه آلاف المرات،يحياه واقعاً مريراً،
ويظل يعيش على ذكريات هذا الماضي،يدفن نفسه حول أنفاسه ،ويتقوقع داخل سراديب أحداثه ،
ويحبس ذاته خلف أسوار ذكرياته الماضي ،فأحدنا ينتصر حاضره على ماضيه ،والآخر يظل فريسة بين أنياب ماض مؤلم .

كانت طفلة صغيرة ،بريئة الملامح ،كثيرة التفكر والتأمل، خاصةً فيما يدور حولها من أحداث ،وبالأكثر فيما هو قادم ،فقد كانت دوماً تخشى المستقبل بكل ما هو آت به ،تلك الطفلة ذات الضفائر المجدولة المسدولة على ظهرها ،هذه الضفائر التي حملت بين طياتها نسمات زمن جميل ،وخصلات تحمل داخلها توجيهات تربية صارمة ؛فهذا حرام ،وهذا عيب ،وهذا لا يجوز ، فهذه الطفلة الصغيرة ذات السبع سنوات من عمرها ،كانت تحيا براءة عالمها الصغير ،براءة ممزوجة بخوف ،خوف من أن تُخطئ ،فتنال عقابها من أهلها ،كان والدها رجل مسن ،في الخمسينات من عمره ،ووالدتها تصغره بسنوات كثيرة ،لكن هذا الفارق الكبير في العمر بين والديها لم يكن يوما ليشغل تفكير هذه الطفلة،وكان والدها حازماً،شديدا ،ووالدتها كانت أشد حزماً ،بل وأكثر صرامة ،فكانت الطفلة تحيا وكأنها تخضع لرقابة قانونية لا أسرية ،ففي ذات يوم عادت الطفلة من مدرستها فرحة ،تتمايل ملامح وجهها رقصاً من شدة السعادة ،حيث أعطتها صديقتها بالمدرسة وجارتها في الحي زجاجة مانيكير (طلاء الأظافر)، وفجأة وعلى غير توقع ،باغتتها خيبة الأمل حيثما أخذ والدها بزجاجة المانيكير ،وألقى بها من البلكون،ونهرها بشدة على هذا السلوك ،وكأنها أرتكبت جُرما ،ولم يكتف الأب بهذا فقط ،بل جاء بأمها ،وقال لها :معاتبا إياها ؛أرأيت تربية ابنتك ؟ انظر ما أتت به ،وكأنه يستنكر ويستهجن ما فعلته تلك الطفلة الصغيرة ،وما كان من تلك الطفلة سوى أدمع تحتضن وجنتيها ،وتعجب يسكن عينيها ،ماذا فعلتُ؟ هل أخطأتُ؟ هم يعلمون كيف أنا ،وكيف هي تربيتي وأخلاقي ،لم يعاملونني هكذا ؟لم يقسون علىَّ لهذا الحد ؟
ومرت الأيام والشهور ،وكانت تلك الطفلة تحيا وعالمها الخاص بها ،حيث تذهب صباحا للمدرسة ،وبعد أن تنهي يومها الدراسي ،تأتي لتذهب إلى درسها ،
ثم تعاود الرجوع إلى بيتها بعد إنتهاء درسها ،حيث واجبات المدرسة والدرس ،كم هي بنت مجتهدة ،منظمة ،دقيقة جدا ومرتبة ،تكره الفوضوية ،والأشياء غير المنمقة،وفي يوم من الأيام كانت تلعب تلك الطفلة في الشارع مع جارتها من نفس عمرها أمام المنزل،وكان أمام منزل تلك الطفلة مواد بناء (رمل ؛أسمنت ؛….)حيث كان والدها يعد لهم طابقاً علويا بالمنزل ،وفي هذا اليوم لم يأت عمال البناء ليواصلوا عملهم ،وقامت جارتها باللهو واللعب فوق هذه الرمال ،تُرى ماذا جرى بعد ذلك؟

ماذا تتوقع عزيزي القارئ أن يحدث ؟

إليك ما حدث بالفعل ؛هبطت الأم درج سلم البيت سريعا ،وفي ثوان خاطفة قامت بإشعال البوتاجاز ،وقامت بتسخين ملعقة الشاي الصغيرة ،ثم وضعتها على يد ابنتها ،فحرقت يد الطفلة النار وتركت أثراً بجلد الطفلة ،وأيضا بنفسية البنت ،كم كان هذا مؤلما ،قاسيا لدرجة لا توصف ،صرخات هذي الطفلة لايزال عالقا في مسامع المحيطين ،وداخل هذه الطفلة تساؤلات عدة ؛أهذه حقا أمي؟ وأنا رغم رقتي وطيبتي ماذا فعلت لأنال ذلك العقاب الرادع القاسي ؟
فقد عاقبتها أمها لأن جارتها قامت باللهو واللعب فوق الرمال التي أعدت لبناء الطابق العلوي من البيت ،هذا وإن كانت البنت حقا أخطأت حينما سمحت لجارتها باللهو على الرمال ،تُرى هل كان من الإنصاف والعدل أن يكون الحرق بالنار هو العقاب الأمثل الذي تستحقه تلك الطفلة البريئة ؟

مما لاشك فيه كل هذه المواقف تركت أثراً سيئاً بنفس تلك الطفلة ،وظلت تنغلق على ذاتها وتحيا فقط وعالمها الخاص بها ،ورغم حزم والدها ،إلا أنها كانت تحبه جدا ،وكانت متعلقة به كثيرا ،وكانت جلستها دائما معه ،وكان دوما لسانه رطبا بذكر الله تعالى.
ومرت الأيام ،وتوالت السنون ،والحياة مريرة قاسية كما هي ،ممنوع الخروج مع الأصحاب ،أو المذاكرة مع أحد الصديقات ،ممنوع تبادل الزيارات مع زميلات المدرسة أو حتى الأقارب ،كانت هذه الطفلة تحيا كابوسا يوميا حتى أنها كانت تنتابها أحلام مزعجة ،وظل هذا الخوف يشكل عائقا نفسيا لدي الطفلة لدرجة أنها أصبحت تحس حالها أقل من زميلاتها ،وبدأت ثقتها بنفسها تهتز شيئا فشيئاً،ورغم مرارة الحياة وثوبها الأسود الحالك التي كانت دوماً لا ترتدي سواه ،إلا أنها ازداد ليلها ظلمة حينما زارها القدر ذات ليلة ،عائدا بوالدها المريض من المستشفى ،وقد تعافى تماما من عملية أجريت له ،كانت عملية تفتيت حصوة بالكلى ،وكانت عملية صعبة برأي الطبيب المعالج،حيث كان والد الطفلة مريض بمرض السكري،فقد كان الطبيب يرى صعوبة إجراء عملية مثل هذي لمريض السكري،لكن والدها أصر على أن يجري
له الطبيب هذه العملية ،فقد كان إيمانه بربه أقوى من أي شئ ،كانت ثقته بالله كبيرة ،وبالفعل أجريت له العملية ،ونجحت وتعافى تماما ،وصرح له الدكتور بالخروج من المستشفى ،وعادت رايات السعادة ترفرف على المنزل ،وظلت طيور السماء تزغرد فرحاً ،ومالبث أن أستلقى على سريره ،وسرعان ما استراح جسده ،وإذ بجدران البيت تنوح وتئن حزناً،وتصرخ الأم قائلة ؛ مات أبوكم ،أبوكم مات
والطفلة تقف صامتة لاحراك ،ذهول فقط يتحدث ،يتسائل ؛ماذا يجري ؟

ترى عينيَّ والدها تزيغ يمينا ويساراً،
وكأنه يودع الدنيا ،ويودع معها كل شئ ،
لم تكن الطفلة كبيرة لهذا الحد،كي تعي ماذا يحدث ،ماذا يدور !

وخرجت الأم لبلكون البيت ،وإذ بها تصرخ بصوت عال ،مات زوجي ،مات زوجي ،وكأنها تدعو القوم لحفل عزاء
والبنت تبكي بشدة ،ودون صوت لأنها بطبيعتها خجولة جدا ،فما كان منها مع البكاء الشديد والنحيب والحسرة والألم ،إلا أنها أمسكت بيد أمها وخاطبتها حينما كانت تصرخ ،وقالت لها ؛ لا تصرخ يا أمي ،ولا تقول أبي مات ،لا تقول .

الأرض تدور ،وكل شئ يسير ويتغير ،والأم تصرخ،وتوافد الجيران وعلم الأهل ،وأصبح البيت سرادقاً للعزاء ،كل هذا يدور والبنت لا تملك مع دموعها الغزيرة سوى الرفض القاطع لفكرة أن باباها قد رحل بالفعل ،كان هذا الحدث الجلل،والمصاب الهادم له عظيم الأثر بالنفس لدي الطفلة الصغيرة التي كبرت وصارت بالصف الإعدادي ،تحملت المسئولية مبكرا ،وصافحتها الهموم ،وسكنتها الأحزان الدفينة ،مما زادها إنغلاقا وإنطوائية ،وكبرت البنت وظلت تفكر أكثر وبإمعان في كل ما يجول بالحياة من حولها ،وكأنها ناقد سينمائي ،ينتقد فيلما يعرض عليه ،ولكنه فيلم طويل ،له بداية ولكنه فيلم ليس له وقتا محددا ،فيلم لا تنتهي أحداثه ،تتعدد أبطاله ،وتتداخل عناصر الحبكة الدرامية فيه ،لكن لا أجل له ،ممتد

كل حدث بهذا الفيلم الحياتي ترك جُرحا غائرا بقلب هذه البنت ،إلى أن كبرت وأشتد عودها ،وأصبحت ذاتها ،وقامت ببناء بنيانها،وتتطايرت صحف هذا الماضي ،وذهبت مع رياح الذكريات ،فما بقي منها سوي ضحكات الطفولة البريئة
كل منا يملك ماضيا ،سواء كان حلواً أم مراً، الأجمل أن نصنع نحن الماضي ،نختتمه بما يليق بنا ،لا نجعل من أنفسنا أداة هشة بين يديه ،كن أنت الأقوى ،لا تترك ذاتك رهينة خوفك من المجهول أو حتى الخوف من القائم ،استعن بالله ،وعش حياتك كما تحلو لك ،طالما كانت طوع إرادة الله ، ووفقاً لأوامره ونواهيه ،لا تكن أنت القاض والجلاد لذاتك ،كن اليد الحانية التي تشبه البلسم الذي يطيب أي جُرح ،ولا تلتفت لأي شئ يعكر صفو حياتك ،اخرج من أي حزن وأي ألم ،وأي صفعة من يد الزمن على خدك ،بالكتابة ،اكتب ،ارسم ،افعل أي شئ تريده ،وتجد فيه ذاتك ،فربما من ألمك هذا تصنع فنانا ،كن أنت نفسك ،لا تجعل حياتك مهما كان مُرها ،تنال منك
انظر دوماً إلى الجانب المضئ ،ولا تنظر إلى الجانب المظلم ،
فهذه البنت رغم قسوة حياتها وصرامة تربيتها إلا أن هذه التربية شكلت جزءا كبيرا من شخصيتها ،وجعلت منها شخصا مميزا خلقا ودينا،شخصا سويا لا يحمل عقد الماضي داخله ،ناجحا في مجاله ،ويحبه الجميع

قد يعجبك ايضا
تعليقات