سامح بسيوني
يا مستودعًا أسراري وذكرياتي كن حافظا للعهد، فصدري مليء بالأنين وبالأشجان، وأعلم بأن الإيمان بدايته هو التسليم بما خطه القلم قبل بداية الإنسان.
فلو كُشف الحجاب عن وجهي؛ لطفق القلب ينبئكم بلوعة الهوى وحنين العشاق.
دعوني أخبركم بأنني لست أنا وإنما أعيش في ماض مليء بالذكريات يحبو كطفل نحو أمه بعد الغياب، فلم أعد ربيعًا كما كنت أنشر البهجة والٱماني.
عدت مرة أخرى ويدي محفوفة بالٱمال، نظرت في وجوه الٱنام فلم أجد إلا بؤسًا، و حزن على قسوة الأيام.
وتجولت بين الحدائق؛ لأخاطب البستان، فلم أجد منه إلا حزنًا على الإنسان.
فأردت أن أصعد إلى السماء؛ لعلي أجد فيها بغيتي ومرادي، فلم أجد إلا نفورًا وغضبًا على الخلق والأنام.
فالمعبود في السماء، وضع الآمال في الأرض؛ ليحيا من أجلها الإنسان، فيأتي فينا الربيع؛ ليجدد فينا الأمنيات بعد الغياب، ويعيد لنا حنين الذكريات؛ فنخرج من برودة الشتاء، ونشتاق لدفء الأيام وحضن طال به الزمان.
جئت بعد الغياب، فتفتحت الزهور لقدومه فرحة؛ لتنسج في الكون أجمل الألوان، والبلابل تغدو بأعذب الألحان، وتفوح الزهرة الفواحة فتنشر الحب وتدعو إلى الحب المليء بالسلام.
جئت بعد الإشتياق، ومجئ لم يكن كما كان، وكأنه ناقم على فعل الرجال: لضياع المروءة والشهامة بين الناس، فنضب الجو من عبير الفؤاد وعم الحزن وسال الدمع وخابت معه الٱمال، وبكى القلب تحسرًا على الذكريات و الأمنيات.
ويغفل الناس عن نعمتان لا يحلو العيش بدونهما، نعمة الأمل والنسيان؛ لكان هلاك الناس في الحال.
فجاء النداء من بعيد اقبل مرة أخرى؛ لتعيد لنا الإنسان، وأرسل عبيركَ المليء بالأحلام، وأيقظ الخلق من غفلة الأيام؛ لتحلو لنا الحياة بعد الشقاء.
فلم يَعدُ الربيع كما كان في سابق الزمان، كان يأتي بنسائم محملة بالذكريات فتخرج الطيور من أوكارها فتشدو بأجمل الألحان، وتسبح في الكون (صٱفات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن)؛ فتصنع في الكون لوحة تسبح لله.
فعاد الربيع مرة ثانية، فلم أحس بهوائه؛ لطغيان الإنسان وتجبره فنسى المتكبر بظلمه ساعة بأنه من الطين؛ فتعربد وطغى في الأرض بغير حساب؛ لذا لم يعد الربيع ربيعٌا ولم أعد أنا الإنسان.