سامح بسيوني
واصطحب الشيخ صغيره إلى مكتب البريد؛ لأخذ معاشه وكان يومًا قائظًا شديد الحرارة، والمكتب كان مكتظًا عن ٱخره، فأخذ الشيخ دوره في الصف وأوقف الصغير سامح تحت شجرة، فوجد بعض الصبية يلعبون بالكرة،وكان الصغير شغوفًا بكرة القدم، وكان هاويًا لها محترفًا منذ صغره يراوغ ويحرز الأهداف ، فانجذب إلى هؤلاء الصبية يلعب معهم في ساحة قريبة من المكتب بها من النجيلة والعارضات، فهو في بلدته دائمًا يلعب مع أقرانه على أرض طينية في ساحة قريبة لهم عند مسجد أبو الحسن، فأخذه الشوق بأن يلعب معهم على تلك النجيلة التي لم يراها في بلدته من قبل.
فأخذ الصغير القرار بدون أن يستأذن أباه بالذهاب إليهم، وظل يلعب معهم يراوغ ذاك ويمرر الكرة لأقرانه الجدد في جو مليء بالفرح والسرور مع شدة هذا الحر اللاذع.
وانشغل الشيخ بالطابور الطويل على أمل أن ينتهي، فالحرارة عالية والأصوات صاخبة، والفوضى في هذا اليوم كان هو شعارها، فاقترب الشيخ من باب المكتب فتنفس الصعداء، ودخل داخل المكتب؛لأخذ معاشه فعندما دخل كانت المروحات تبعث على الرءوس هواءً رطبًا فأحس الشيخ ببعض من الراحة بعد عناء الصف الذي يشبه يوم الحساب.
ولكن قلب الشيخ حادثه بشيء من القلق والإضطراب نحو الصغير،فانشغل به وأحس بأن به مكروه، فأصبح الفؤاد فارغًا، فظل يطالع من نافذة المكتب على صغيره؛ لعله يطمئن عليه، ولايزال يدقق النظر فلم يره تحت الشجرة فأوجس في نفسه خيفة على الصبى.
فتعجل الصراف في صرف معاشه، ودار بينهما حوار لم يصل فيه الشيخ بنتيجة إلا ببرود من الموظف ، وأخيرًا وقف أمام الصراف، ونظرات تنتابه منه ولكنه لم يكترث بهذا الأمر، وعقارب الساعة توقفت عند الشيخ؛ خوفًا على صغيره، فأعطى له ختمه وقام بالتوقيع؛لأن الشيخ كان يجيد الكتابة والحساب، وخاتمًا للقران وله صوت شجي تقشعر منه الجلود والأبدان.
فخرج الشيخ مفزعًا؛ كأنه يفر من قسورة يبحث عن الصبي هنا وهناك، وعندئذ استغل أحد اللصوص لهفة الشيخ على صغيره فسرق ما معه من المال ولم يدع له شيئًا، وابتعد الشيخ عن مكتب البريد ولم يلاحظ تلك الساحة التى يلعب فيها الصبي.
وأنهك الصبي اللعب، فأحس بعطش شديد فسأل الصبية عن مبرد مياه، فأشاروا له على مبرد يبعد عن الساحة بشيء بسيط، فذهب وارتوي ثم رجع إلى مكتب البريد؛ يبحث عن أبيه هنا وهناك فلم يجد أباه، وظل يبكي ماذا أصنع؟
وكان الصبي ذكيًا منذ صغره يعرف عناوين إخوانه وأخواته في القاهرة، فاستوقفه رجل عليه ملامح من أهل النوبة فوجه أسمر وابتسامته صافية كصفاء السماء في ربيعها قلبه طيب، فتحدث مع الصبي وهدأ من روعه، وأخذه إلى دكان؛ واشترى له من الحلويات وربت على كتفه، فشعر معه الصبي بالاطمئنان والراحة؛ لأن الصبي يحب العطف والحنان.
ودار حديث بين الرجل والصبي، فسأله عن بلدته فأجابه وأخبره بأن له إخوة يكبرونه يقطنون في القاهرة فتعجب الرجل من ذكائه ولباقته في الكلام مع صغر سنه.
وهم الرجل بأن يأخذه؛ لأقرب عنوان لأخواته، وكانت الأقرب له أخته- رأفت – التى كانت تقطن في الأميرية ومكتب البريد قريبًا منها، وعندما شرع الرجل بأخذه إلى أخته، سمع الصبي أذان العصر من مسجد قريب للمكتب البريد، وكان الصبي يعلم بأن أباه منشغل جدا بالصلاة فهو لا يترك صلاة الجماعة في المسجد مهما كان الأمر، ولأن الصبي حباه الله بالفراسة منذ صغره، فتوقع أن يكون أبوه داخل المسجد، فاستوقف الرجل، وأشار على الرجل بأن يدخلا يبحثان عنه فربما يكون الشيخ داخل المسجد ؛ لقضاء صلاة العصر.
وصدق حدس الصبي فلمح أباه في الصفوف الأولى يتركع لسنة العصر، فأخبر الرجل الطيب بأن أباه في أول الصفوف، فربت على بحنو وأقتربنا من الشيخ،وكان يوشك من الإنتهاء من صلاة السنة فجلست بجانبه؛ حتى يفرغ من صلاته فسلم الشيخ عن يمينه ويساره، وما أن رأني حتى استحال أمره من حزن وهم إلى غبطة وسرور، وأخذني في أحضانه ودموعه تساقطت على جبيني؛ فشعرت بأنني ارتويت من نهر الحنان لم أجد له مثيل إلى الآن، ثم صلينا العصر في جماعة وشكر أبي هذا الرجل الطيب وودعه بحرارة عالية تشبه هذا اليوم القظ وانصرف هذا الرجل إلى حال سبيله.
وسرت أنا، وأبي وقصصت عليه أمر هؤلاء الصبية، فعاتبني عتابًا طفيفًا، وأخبرته بأنني أصابني الجوع من شدة نصب سفرنا، ولكن الشيخ لم ينتبه إلى الٱن بأنه سُرق في مكتب البريد، فقال للصغير لا تقلق سوف نأكل في المطعم المشويات فقد عودني على هذا الأمر كل شهر.
وتحسس الشيخ سيالته؛ ليخرج منها النقود فلم يجد معه شيئًا من المال، وراجع الذاكرة فعلم بأنه سرق من لص أمام مكتب البريد، فاغتم غمًا شديدًا ماذا افعل في تلك الوارطة؟
وكان الشيخ عفوفًا لا يسأل أي أحد مال، حتى أبنائه الكبار، فاتفق مع الصغير بألا يبلغ أحد بما حدث وعاهده الصغير على ذلك، وأخذ الفكر الشيخ ماذا سيصنع في تلك الوارطة ؟
فجاءت له فكرة….. يتبع