القاهرية
العالم بين يديك

ذات الصمت الجميل

426

بقلم_ سالي جابر 

استيقظت على صوت إذاعة القرآن الكريم مستبشرة بالخير، فقد كان القرآن بصوت الشيخ محمود البنا مصدر سعادة بالنسبة لها، وكانت حافظة القرآن عن ظهر قلب، قالت دعاء الصباح وقرأت ما تيسر من الذكر، ثم نهضت من الفراش وضعت قبلة على جبين أمها، خرجت إلى الشرفة تستنشق عبير الأزهار، كان لديها من الأسرار الكثير والكثير، فكانت تتحدث سرًا إلى زهورها وتنادي كل زهرة بالاسم الذي اختارته لها، وكل اسم يحمل معنى يُحيي ما بداخلها من حب، خافت أن يسمعها أحد وهي تعترف لزهرة بحب بطل قصتها التي ألفها خيالها، فكانت تمشط شعرها وتتعطر وترتدي أجمل الثياب عسى أن تقابله سرًا في حلمها، ولكن ماذا لو أتى ذلك الفارس المغوار وسط البساتين وبث فيها الأمل من جديد؟ ماذا عساها تقول؟ الافتقار للحياة والتعمق في الخيال، والحلم برؤية زهورها أصبح أملًا كاذبًا، لكنها مازالت تتجمل في كذبتها، واليوم قررت الهدنة مع ذاتها القلِقة وحلمها البائس، وشغلت المذياع لتتابع مسلسلها المفضل وتنتظر البطل الذي أكد لها أن الكذب المنمق مشروع ناجح لتضليل ذات خائفة 

إنها تتمنى لو ترى السماء مرة واحدة، وصَفَوها بالزرقة الهادئة

التي تتنفس الصبح فتشرق به شمسها البرتقالية، تنسج دفئها وحرارتها بالنهار وترحل ليلًا ليحل محلها الطبق الأبيض الصخري الذي يزيل عتمة الليل ويتسامر مع النجوم في سهرة ممتعة … تنهدت وخرجت آهه من جوفها متشبعة بالألم والأمل، تتمنى لو ترى السماء في ليلة ممطرة، البحر وأمواجه المتلاطمة، وقلبها كصخرة صماء تتحطم بفعل دموعها المنهمرة على قلبها في صمت.

دخلت عليها الأم بالفطور بخطوات هادئة تنادي لكنها لم تسمع بل كانت في حلمها المستحيل، وجدت الأم آثار غيث دموع على وجنتيها التي تتخللها الحمرة؛ فقد كانت تنافس الطبيعة في جمالها، احتضنتها الأم وقالت:” سيغدو الحلم حقيقة” ابتسمت ذات الصمت الجميل وقالت لنا البشرى يا أمي. إنني أشم رائحة خبزًا طازجًا وذاك بيض وهذا فول، ما أجمل الفطور الذي تعدها يداكِ يا أمي! وما أجمل النهار بصحبتك! 

اليوم هي واقفة بشموخ على المنصة تحتل المركز الأول في حفظ القرآن الكريم، تتلوه بقلبها، تتنفس حروفه، تشدو بآياته كما لم يشدو طائر من قبل، تبكي من فرط فرحتها، كعصفور يغني لحن الحب ثم ينشج الفراق، زاد خوفها كلما ارتجف قلبها بالصمت، ومازالت تغني في صمتها الجميل وتتمنى أن ترى لساعة واحدة جمال الكون .

تبدو الحياة لنا كالسماء الصافية، ووقت الحزن تتلبد بالغيوم نتمنى أن نمد يدنا ونتبلل بأمطارها لكن يخيفنا الرعد، ويعمينا البرق، وتأخذنا الصواعق ونحن لا ندري إلى أين ذاهبون!

حتى البحر في جماله يحمل في بطنه الكنوز، ثم يخرج لنا ما خف وزنه ليلقنا أنه رغم جماله فهو مخيف، ربما يخطف من بيننا من نحب ونحن مكتوفي الأيدي، معصوبي الأعين، نبكيهم فقط.

للكون جمال نراه بداخلنا فقط كلما كنا كذلك. وبعد تفكيرها العميق الذي دام بضع دقائق ارتسمت البسمة على شفاها وكأنها تقول سيأتي الغد جميل، وسأرى زرقة السماء والقمر المنير يوما ما.

هي من اعتادت الظلام، تتمنى لو ترى ظلها مرة واحدة، تتذكر نعم الله عليها كثيرًا، لكنها تبكي وحدتها وعزلتها وقلة حيلتها، حتى اليوم الذى قررت فيه مساعدة والدتها في الأعمال المنزلية كسرت بعض الأشياء، أدمت قدماها، وفاق الألم الوجع الذي تكبد قلبها العليل، تحسست الحيطان في ظلامها ودخلت غرفتها تبكي، ونامت وهي تحتضن اليأس ثم فاقت وجلست أمام المرآة تمشط شعرها وهي تنظر لمرآتها وكأنها ترى جمال شعرها الأسود كما وصفوه لها، دخلت الأم وحملت عنها المشط ورفعت لها شعرها بإتقان ووضعت توكة من الحرير بألوان زهرية؛ لتبرز جمالها، وسحبت منه خصلتين ينسدلان على وجنتيها، بسطت عليهما الشمس أشعتها فكانت قمرًا مضيئًا، جلست على المقعد المقابل لها توصف لها نور وجهها، لكن…

خرجت الأم لتعد الفطور، وحين احتساء الشاي طلبت البنت من أمها تعلم القراءة بطريقة برايل، وافقت الأم بالطبع لأن الفراغ أول ما يقتل الأحلام ويصيبنا بالموت على قيد الحياة، نظرًا لحالتهم الاقتصادية قررت الأم الذهاب لإحدى الجمعيات الخيرية تطلب المساعدة، وبعد بضعة أيام جائهم اتصال هاتفي بتحديد موعد الدروس.

تلك سعادة من نوع آخر، فرحة الانتظار الذي إن طال فقد الإنسان شغفه بالشيء الذي تمناه، كان اليوم الأول جميلًا، ومن قام بتدريسها شخص راقٍ في تعامله، أنيق في شرحه، صبور في تعليمه، وما أحلى الحياة بوجود من يضعك على قارعة الأمل!

فاتنة هي بابتسامتها، ذكية في تعلمها، رقيقة في أسلوبها، كانت تتعلم بسرعة، تتنقل في المواضيع بخفة الفراشة، وذات يوم قررت الجمعية بعقد اجتماع لأهالي من يتعلمون قراءة برايل، قلقت الجميلة الهادئة؛ فإن الحصول على شيء دون مقابل مادي مخيف في بعض الأحيان، لكن الأمر ترك بسمة أمل على وجوه الحضور مكسو بالخوف؛ فالأمل ضعيف في عودة النظر حتى على يد كبار الأطباء، لكن التجربة متاحة للجميع، وبعد فحص طبي من قِبل طبيب مختص، تم اختيار أصعب الحالات ومن بينهم ذات الصمت الجميل، قررت التخطي من عتبة الخوف واستكمال يومها لحين موعد العملية، لكن الخوف عدو كاسح يبرز الشيب على الملامح، أراد معلمها تهدئتها والربت على قلبها بالكلمات، ذاك المعلم أتقن طريقة برايل من أجل طفلته ذات العشر سنوات، طفلة بلا أمل، تردد والدها بها على كل أنواع التأهيل، الآن هي الجامعة، طالبة ناجحة، مثقفة، لكن الأب وحده من شعر بألامها، وعليه قرر مساعدة المكفوفين، واليوم يبث الأمل في الجميع؛ شكرًا للباريء الرحيم.

جاء اليوم الذي تخافه وتتمناه، والأم والمعلم بالخارج يدعون لها بالخير، مستسلمون لأمر الله- تعالى-

قد يعجبك ايضا
تعليقات