كتب/أحمد حشيش
دائما نبحث بين طيات الفنون بين الواقع والخيال والخارج عن المالوف بين قيمه مضافه او خروج عن المألوف بين الحلم والارتجالية
يقول المثل الشعبي العربي: «الجنون.. فنون» في إشارة إلى تنوّع أشكال الجنون التي يعاني منها بعض البشر، في تصرفاتهم وسلوكياتهم التي تتنافى مع المنطق العام أو العقل الجمعي، أو تتحدّى قوانين الطبيعة والقواعد الاجتماعية والأخلاقية.
وبرأيي فإنّ العبارة يمكن عكسها لتصبح «الفنون.. جنون» عندما يتعلّق الأمر بالطفرات الفنية التي يقدّمها بعض الفنانين من مختلف المجالات، لكي يعبّروا عن فكرة ما أو يحقّقوا الشهرة بشكل أو بآخر.
ما أوحى لي بذلك هو لوحة للفنان الإيطالي الشهير بأعماله الساخرة ماوريتسيو كاتلان، الذي عرض لوحة بعنوان «الكوميدي» في معرض «آرت بازل» في ميامي- فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية، وبيعت منذ أيام بمبلغ 120 ألف دولار أمريكي.
ليس سعر اللوحة هو الخيالي فحسب، وإنما اللوحة بحدّ ذاتها، والتي تعبّر بشكل كبير عن الجملة السابقة الذكر (الفنون جنون)!.. فاللوحة هي موزة حقيقية ملصقة بشريط لاصق على جدار في المعرض، بدون إطار حتّى!!
كيف لموزة أن يبلغ سعرها 120 ألف دولار؟!.. هذا ما يستطيع الإجابة عنه (مبدع) اللوحة الفنان كاتلان فقط.
ما يزيد الجنون جنوناً، هو ما قام به الفنان الأمريكي من أصل جورجي ديفيد داتونا عندما أكل الموزة ذات المائة والعشرين ألف دولار، مبرراً ذلك بأنه شعر بالجوع!
طبعاً كان من وراء تصرفه هذا هدف ما، ولحسن حظه لم تتم مقاضاته بسبب التهام الموزة الشهية باهظة الثمن، لأن الهدف من الموزة -كما أشارت منظمة المعرض-هو الفكرة وليس الموزة بحدّ ذاتها، لأنّ الموزة لا تدوم وستتعفن بعد أيام بدون أدنى شك، لذلك ما كان من إدارة المعرض سوى استبدال الموزة بموزة أخرى.
يبدو أن الذوق العام تغيّر، والمسلّمات المتفق عليها على المستوى الإنساني تبدّلت، حتى وصلنا إلى مرحلة من ضياع القيم والتباس المفاهيم، فما كان في السابق عيباً غير مقبول من الناحية الاجتماعية والأخلاقية، أصبح اليوم خاضعاً لوجهات النظر وقوانين الحريات الشخصية.
وما كان سابقاً منافياً للعقل والمنطق، أصبح اليوم يطبّق بشكل عادي وعلى عيون الأشهاد! وهنا أعود إلى المثل العربي (الجنون فنون) الذي تستحقه بجدارة شابة بريطانية تزوّجت من سجادتها! للأسف هذه حقيقة وليست مزحة، ورغم أن الفكرة منافية تماماً للعقل والمفاهيم الإنسانية، والمنطق وقوانين الطبيعة وعلم الاجتماع، إلا أنّ أقرباء وأصدقاء الشابة ساهموا بدفع تكاليف العرس وقدموا للعروسين (الشابة والسجادة) هدايا متنوعة أغلبها أدوات ومنتجات تنظيف.
وهي ليست حالة فريدة، لأنّه سبق لفتاة بريطانية أخرى الزواج من ثريّا!.. شابة ثالثة تزوّجت من نفسها، وفي الهند زُوِّجتْ فتاة لكلب -أكرمكم الله وعافاكم-في احتفال قَبَلي كبير، أما أحد الرياضيين الروس البارزين في رياضة كمال الأجسام فتزوّج من دمية!!
على ما يبدو فحالة الجنون هذه ازدادت استفحالاً مع نهاية العقد الأول من هذه الألفية، والخوف مما يحمله لنا العقد الجديد ونحن على أعتابه.
لقد وهبنا الخالق عزّ وجلّ عقلاً يميّزنا به عن باقي الكائنات، ولسنا بحاجة إلى تشغيل جميع خلايانا الدماغية لكي نميّز بين الصحّ والخطأ، وبين المنطق واللا منطق، وبين العقلانية والجنون، وكما يقولون: من أعطاه الله عقلاً.. لم يحرمه أيّ شيء.
لست ضدّ الفنّ المعاصر، بل إنني أجد مواكبة التطوّر الذي يحصل في العالم في جميع المجالات ومن بينها الفن، ضرورةً حتميةً لتطوّر الحياة، ومن المعروف أن بعض الفنانين العظماء الذين سبقوا عصرهم وابتكروا شيئاً غريباً أو أبدعوا بطريقة مخالفة للرأي العام، حوربوا في البداية، أو واجهوا الكثير من الانتقاد، ثمّ ما لبثوا أن تحوّلوا إلى أيقونات تاريخية، فعلى سبيل المثال مازالت متاحف العالم تمتّع زوارها حتى اليوم بجنون سلفادور دالي، ولوحاته غير الاعتيادية.
أمّا فنسنت فان غوخ الذي عانى بالفعل من مرض نفسي، فقد أبدع واحدة من أجمل لوحاته أثناء وجوده في المستشفى النفسي وهي لوحة (ليلة النجوم).
من الجميل أن يكون الطعام موضوعاً رئيساً للفن، بل إنني -مثل الكثيرين غيري- أعترف بأن بعض الأطباق الشهية تستحقّ أن تدرج ضمن الأعمال الفنية الخالدة، ولاسيما تلك الأطباق التراثية التي اعتدنا على تناولها من أيدي أمهاتنا وجدّاتنا، وأعتقد بأنّ الفنان الإيطالي كاتلان -الذي سبق له أن قدّم أعمالاً فنية أكثر جنوناً من الموزة- يهدف إلى إيصال فكرة ما من لوحته، ربما تكون فكرة ساخرة كما يوحي به عنوان اللوحة: «الكوميدي»، لكنني لا أستطيع أن أفسّر السبب الذي يدفع شخصاً ما لدفع مبلغ خيالي مقابل لوحة يستطيع طفل في الخامسة من عمره أن ينفّذها!.. هنا يبتكر الشاري فناً جديداً من أنواع الجنون البشري!.
لا نعرف إلى أين سيصل بنا الفن المعاصر، فهل سنرى لاحقاً أعمالاً فنية مبنية على أطباق الهريس والمنسف والثريد؟.. وهل سيجد الجياع في العالم ما يسكت بطونهم عبر لوحة فنية معلقة على جدار؟!