القاهرية
العالم بين يديك
Index Banner – 300×600

فطائر غمراسن

151

متابعة عبدالله القطاري من تونس

أدّت هجرات العمل المكثّفة، التي سلكها مهاجرو مناطق الجنوب التونسي منذ أواخر القرن التاسع عشر إلى شمال البلاد و خاصّة إلى الحاضرة تونس، إلى ظهور صنائع حرفية ذات صبغة تجارية غذّت المشهد الاقتصادي العام للبلاد و أتاحت موارد اقتصادية قارة لأصحابها.
كما تمكنت تدريجيا وبأشكال متفاوتة من احتلال مكانة معتبرة بين الصنائع العريقة التي عرفتها البلاد التونسية. و تعتبر صنعة الفطاير من أبرز هذه المهن التي كان لها مرجعيتها التاريخية و قواعدها التنظيمية المحكمة . لذلك سنحاول من خلال هذه الدراسة الانتروبو- تاريخية تسليط الضوء على هذه الصنعة للتعريف بها ورصد خصوصياتها.
I – صنعة الفطاير: تعريفها و تركزها المجالي:
1- من هو الفطايري؟
للتعريف بصنعة الفطاير ارتأينا الانطلاق من هذه الفقرة التي خصّصها محمد بن عثمان الحشايشي في مؤلفه حول العادات التونسية للتعريف بالفطايري قائلا مايلي: “الفطايري هو الذي يقلي الفطيرة بزيت خالص ، وهي من نوع العجين المخمّر و له حانوت خاص بجهات معلومة من البلد و له صّناع يبيعون له الفطائر فوق طباق من القصدير ، يأكل الناس عنده صباحا و لكن من الأوباش و الرّعاع ،يجلسون على قناطر من اللوح و تجعل الفطائر فوق ألواح طوال وبعد الفراغ من الأكل يمسحون أيديهم بالنخالة ثم ينصرفون و غالب الصغار من أهالي تونس لا بدّ أن يأكل كل واحد منهم فطيرة في الصباح ، وبذا جرت العادة و يأكل من يشتهي ذلك أيضا و هناك من يغمسّها في العسل و السكر أو يأكلها بشيء من الغلة كالعنب أو الكرموس أو البيثر الخ ، أهل هاته الصناعة من أهل الأعراض غمراسن “.
مما لا شك أن إشارة الحشايشي تعتبر شهادة تاريخية قيّمة ووثيقة اجتماعية و اقتصادية و حتى ثقافية عن صنعة الفطاير فقد حاول الكاتب تدقيق التعريف بذكر مواد الصنع و مكان الصناعة و البيع و من يقوم بها ومواد الصنع ومن يستهلكها لذلك سنعتبرها منطلقا لهذه الدراسة و سنتوسع في هذا السياق لمحاولة تعريفها اعتمادا على ما توفر لنا من مصادر مكتوبة و ما اختزنته الذاكرة الشعبية عن هذه الصنعة . الفطايري هو “صاحب هذه الصنعة” أو “الصنايعي” الذي يصنع “الفطيرة ” وهي رقاقة في شكل دائرة تصنع كما أشار إلى ذلك الحشايشي من عجين مخمّر. تتكون مادتها الأولية من طحين القمح ( الفارينة) و شيء من الملح و الخميرة ثم تعجن بالماء داخل إناء من الفخار يسمّى “المعجنة” .
تقلى الفطيرة داخل إناء واسع يتسع لكمية كبيرة من الزيت يسمّى “طاجين” يوضع عادة فوق سطح مرتفع قليلا عن الأرض مهيأ للغرض يسمّى ” النصبة” حتى يتسنّى للفطايري إيقاد النار تحته بواسطة الحطب أو بواسطة الغاز في فترات لاحقة . و عندما تستوي الفطيرة و يصبح لونها ذهبيا يميل إلى الحمرة يتم إخراجها من الطاجين بواسطة أداة حادة تسمّى “سنفود” و توضع على “القطّار” حتى تتقطّر من زيتها بعض الوقت ثم تكون مباشرة جاهزة للاستهلاك . تكتسب الفطيرة خصوصيتها إذن لا من موادها الأولية البسيطة بل من تقنية تدويرها وسرعة وضعها في الطاجين حتى لا تفقد شكلها الدائري لذلك فان المحترف أو “الصنايعي” فقط يكون قادرا على إعداد الفطيرة . تأكل الفطيرة ساخنة في فطور الصباح داخل حانوت الفطايري و تستهلك في الأصل وحدها دون أي مواد أخرى ( كالسكر و العسل….). و بالتالي يمكننا تصنيفها ضمن الصناعات الغذائية التجارية المختصة في الأكلة السريعة ( fast foodإن صح القياس) . كما تقدم للزبائن بطريقة بدائية ” فوق ألواح طوال “و بعد الفراغ من الأكل تمسح الأيادي بالنخالة وهي سلوكيات بالإضافة إلى أنها لا تراعي أدنى شروط النظافة فهي لا تمت لتقاليد الحضر بصلة لذلك فقد كانت في البداية تتعامل مع مجتمع استهلاكي ذكوري بالأساس ينتمي خاصة إلى الطبقات الشعبية و الهامشية الذين وصفهم الحشايشي بنبرة تحقيرية ” الرعاع و الأوباش و الصغار من أهالي تونس” .لكنه في المقابل أقرّ أيضا بأنها قادرة على استقطاب كل من” يشتهيها” أي من الفئات الاجتماعية الأخرى ولا سيّما الارستقراطية منها .وهو اعتراف ضمني بأن الفطيرة استطاعت أن تأسر قلوب المارين أمام حانوت الفطايري و” “تسيل لعابهم” وفضلا عن ذلك ربّما أصبحت قادرة لبخس ثمنها على مزاحمة بعض الصناعات الغذائية الأخرى التي تميز بها الحضر من أهالي تونس و هي بالأساس الحلويات ذات الجذور الأندلسية و التركية و الأوربية التي وفدت إلى البلاد بعد الاحتلال الفرنسي . لقد أكّد الحشايشي و جلّ التقارير الاستعمارية التي تعرضت إلى ذكر غمراسن على انتماء هذه الصنعة تاريخيا لأهل غمراسن وتخصصّهم فيها دون غيرهم إلى حدّ أن كلمة غمراسني كانت مرادفة لصفة فطايري . إلا أن المصادر لا تحيلنا على أيّة إشارة عن جذور هذه الصنعة و لا كيف وصلت إلى أهالي غمراسن.
وفي بحثنا داخل التراث الشفوي بالجهة وجدنا بأن الذاكرة الجماعية تنعتها “بصنعة الجدّ” فهي بالتالي تصلها مباشرة بالجدّ المؤسس لغمراسن الذي تذكر الأسطورة أنه قادم من الساقية الحمراء و ربّما يكون قد جاء بها معه ثم أورثها إلى أولاده من بعده. كما تشير بعض الروايات الأخرى إلى أن أهل غمراسن أخذوا تقنية صنع الفطاير عن اليهود . وباستثناء هذه الروايات فإننا لا نجد أي دعائم واقعية دالة على الجذور الحقيقية لهذه الصنعة.و يبدو أن ربطها بالجدّ المؤسس لا يعدو إلا شكل من أشكال إضفاء بعض القداسة عليها و إعطائها قيمة مضافة لدى الأجيال اللاحقة لضمان تواصلها وتوارثها من الأب إلى الابن نظرا لما يمثّله الجدّ المؤسس و أسطورة التأسيس من رمزية لدى هذه المجتمعات .و حتى وإن سلمنا بأنها “صنعة الجدّ” فالسؤال يبقى مطروحا لماذا لم تمارس هذه الصنعة في غمراسن ذاتها و المناطق المجاورة لها ؟ لماذا لم تندرج ضمن الأنشطة الاقتصادية اليومية لأهالي المنطقة و عاداتهم الاستهلاكية اليومية ؟ . أماّ مسألة أخذها عن اليهود فربّما تكون أقرب إلى الموضوعية فالمعروف أن اليهود عريقين في ممارسة التجارة بكلّ أنواعها وربّما كانوا قد مرّوا بهذه الصنعة التجارية في فترة ما من فترات تاريخهم.
ومهما يكن من أمر جذور هذه الصنعة فقد اتفقت المصادر رغم قلّتها و الدراسات الحديثة على أنها صنعة ارتبطت بموطن الهجرة و بسوق الشغل لا بالوطن الأم و يبدو أنها من استنباط محترفيها في مكان الهجرة وهو ما أكّده الأستاذ محمد نجيب بوطالب في مقاله حول هجرة العمل من قبيلة ورغمة قائلا : ” نحن لا نلاحظ هجرة حرف بل هجرة قوة عمل خام … إن الحرف تتكون في الخارج في مناطق الجذب” . وهو ما سيتوضح لنا أيضا من خلال التركز المجالي لحوانيت الفطايرية.
2- التركز المجالي لحوانيت الفطايرية :
كما أشرنا إلى ذلك آنفا فان صنعة الفطاير هي وليدة ظاهرة الهجرة. فقد عرف السكان الجبالية بجهة تطاوين ومن بينهم أهل غمراسن هجرة العمل الفردية منذ القرن الخامس عشر تقريبا بسبب الأزمات المناخية و قلّة الموارد الاقتصادية بالمنطقة .لكنها عرفت شكلا أكثر انتظاما و احتدادا منذ أواخر القرن التاسع عشر تزامنا مع الاحتلال الفرنسي للبلاد الذي فرض مراقبة عسكرية صارمة على تحرّكات قبائل ورغمّة ممّا نتج عنه ضرب لمواردهم التقليدية دفعهم إلى البحث عن حلول أخرى لضمان عيشهم . ويبدو أن أنجع هذه الحلول كان سلك طريق الهجرة واستنباط مهن جديدة قادرة على تأمين عائدات مالية قارة فكانت الحاضرة تونس المدينة الوحيدة القادرة آنذاك على استقطاب أعداد هامة من اليد العاملة الغير متخصّصة مهنيا . و قد اعتبرت صنعة الفطاير التي مارسها أهل غمراسن من صنف تلك المهن الهامشية التي استوطنت بالحاضرة و صنفت في خانة مهن البرانية “الخسيسة” على غرار (الفحاّمة و الطبّاخة و الخضّارة و الحمّالة…) مقارنة بالمهن الحضرية الراقية كصناعة الشاشية و العطور و غيرها . وفي الحقيقة لا نمتلك إحصاءات رسمية عن عدد الحوانيت بالحاضرة إلا ما ورد في بعض الوثائق التي أعدّها الفطايرية أنفسهم . فقد أحصت وثيقة مؤرخة في 25 جويلية 1944 عدد 77 حانوت فطايري بالحاضرة باستثناء الأحواز .تتوزّع بطريقة متفاوتة بين كل العروش المكونة لقبيلة غمراسن.
توزع عدد الحوانيت حسب العروش سنة 1944
الزواخر 21
الأمّاسي 41
الحدادة 8
أولاد زيد والمرابطين و أولاد سليم 7
عدد الحوانيت ف الجملة : 77
فطاير غمراسن
كما أشارت وثيقة أخرى مؤرّخة في 7 ديسمبر 1945 إلى عدد 140 حانوت . أي أن عدد الحوانيت تضاعف تقريبا في ظرف أقل من سنة. ورغم أننا لا نثق كثيرا بهذه الاحصاءات لأنها من انجاز الفطايرية أنفسهم ،فان ارتفاع عدد الحوانيت هذا يبدو ناتج عن عودة الفطايرية إلى مواقع عملهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية ( سبتمبر 1945) فقد ذكرت وثيقة مؤرخة في 15 ديسمبر 1945 بأن عدد كبير من الفطايرية اضطرّوا إلى غلق حوانيتهم و العودة إلى غمراسن زمن الحرب كما ورد في وثيقة أخرى بأن شيخ المدينة وافق في نفس السنة على انتخاب أمينين للفطايرية بسبب ارتفاع عدد الحوانيت . مما يؤشر على أن عدد الحوانيت قبل الحرب يتجاوز عدد 77 حانوت التي تمّ إحصائها سنة 1944 وهو دليل أيضا على أهميّة التركز المجالي للحوانيت بالعاصمة .
أماّ بالنسبة لوجود هذه الصنعة في بقية مناطق البلاد فان المصادر لا تشير إلى أيّ معلومات إحصائية عن عدد الحوانيت خارج الحاضرة ،لكن بعض ما توفر لدينا من مصادر مكتوبة أو شفوية يشير إلى أن صنعة الفطاير توسعت أيضا نحو بعض المناطق الشمالية و الشمالية الغربية للبلاد ولكن بأقل حدّة من العاصمة مثل (طبربة ، ماطر، بنزرت ، باجة ، سوق الأربعاء (جندوبة )، مجاز الباب و تستور……) .إذ كان الفطايري لا يدخّر الجهد للانتقال من منطقة إلى أخرى في فترات مختلفة من حياته لممارسة هذه الصنعة باحثا عن الربح المادي ،وتذكر إحدى الوثائق المؤرخة في 19 ديسمبر 1907 أن أحد الفطايرية انتقل لممارسة هذه المهنة من طبربة إلى باجة و آخر من ماطر إلى باجة ،هذا نصّها” الحمد لله حضر لدى شهيديه المكرمان محمد بن مسعود عرف بن جراد الغمراسني الفطايري صناعة الآن ببلد طبربة و محمد ابن الحاج علي المقدم القبيل الفطايري الآن أيضا ببلد ماطر حال الأشهاد عليه بطبربة و اتفقا على عمارة حانوت تعدّ لصنعتها بمدينة باجة …الخ الوثيقة” .
وقد أكّد لي أحد الفطايرية بأن برودة المناخ في فصل الشتاء بهذه المناطق يجعل من السكان كثيري الإقبال على استهلاك الفطاير الساخنة في الصباح و الحلويات بأنواعها . و هو ما يفسّر ربّما عدم إقبال الفطايري على الانتصاب بالمدن الداخلية و الساحلية للبلاد
.فلم يكن مثلا الفطايرية بصفاقس من أصيلي غمراسن بل أن الفطايري ينعت ” بالسّفناج” وتختلف فطيرته في شكلها و تقنية صنعها عن فطيرة الغمراسني وتأسيسا على ما تقدّم بإمكاننا التأكيد بأن هذه الصنعة تركزت مجاليا بالعاصمة و المناطق القريبة منها ثم توسعت تدريجيا نحو المناطق الشمالية الغربية للبلاد المتاخمة للحدود الجزائرية و من هذه البوابة استطاع الغمراسني النّزاع إلى الهجرة اكتشاف أسواق جديدة وهي السوق الجزائرية منذ حوالي مطلع العشرينات و السّوق الفرنسية منذ أواخر الأربعينات من القرن العشرين فقد ذكر تقرير أعده ضابط فرنسي سنة 1947 أن “الفطايري هو الغمراسني الذي احتكر هذه الصنعة بالبلاد التونسية و انتقل بها إلى كل مدن شمال الجزائر إلى حدود وهران بل مرّ بعض الفطايرية حتى إلى المغرب و أخيرا انتصب اثنان منهم بمرسيليا ” . لذلك فإننا لن نبالغ إذا وصفنا هذه الصنعة “بالصنعة المهاجرة”.
II – القواعد التنظيمية لصنعة الفطاير :
تشير المصادر إلى أن هذه الصنعة لم تكن هامشية بالمرة بل كان لها قوانينها الداخلية وأعرافها و هياكلها التنظيمية ومن أهمها نظام الشركة في ملكية و كراء الحوانيت و مؤسسة أمين الفطايرية التي تسهر على تنظيم هذه الصنعة .
1 – نظام الشركة في إدارة الحوانيت :
من الأنظمة التي تميّز صنعة الفطاير هو نظام الشركة في امتلاك أو كراء الحوانيت إذ نادرا ما يكون الحانوت على ملك شخص واحد بل أنه غالبا ما يتقاسم ملكيته أو تسويغه مع شريك أو أكثر من داخل دائرة القرابة أي من بين أخوته أو أبناء أعمامه . و يبدو أن هذه الممارسة مرتبطة بروح التضامن الجماعي التي تميّز المجتمع القبلي في وطنه الأم فانتقل معه هذا السلوك إلى موطن الهجرة و ميدان عمله. يحرص الفطايري قبل شراء أو كراء حانوته على القيام بدراسة ذهنية لمردودية السوق التي سينتصب فيها و تقدير المرابيح للإقدام على خوض هذه المغامرة ثم يقوم باختيار شريكه .ويوثّق اتفاق الشركة بواسطة عقد عدلي ينصّ على حقوق وواجبات كل طرف وينظّم تقاسم الأدوار و المصاريف و المرابيح بينهم .ومن بين عقود الشركة التي عثرنا عليها سنورد نصّ هذه الوثيقة المؤرخة في 19 ديسمبر 1907 .
” الحمد لله حضر لدا شهيديه المكرّمان محمّد بن مسعود عرف بن جراد الغمراسني الفطايري صناعة الآن ببلد طبربة و عمر بن الحاج عليّ المقدّم القبيل الفطايري أيضا الآن ببلد ماطر حال الإشهاد عليه بطبربة و اتفقا معا على عمارة حانوت تعدّ لصنعتها المذكورة تكون أنصافا عليهما سويّة لا فضل لأحدهما على الآخر و يباشر الخدمة بالحانوت ثانيهما عمر المذكور العام الأول و يباشر محمّد الخدمة بها العام الثاني و هكذا عام بعام ما دام بقيد الحياة و يؤدي كل ّ منهما كراء العام المباشر فيه للخدمة وحده دون الثاني و من انتقل منهما بالوفاة يقوم ورثته مقامه مباشرين للخدمة المذكورة مع الحيّ منهما على الصفة المذكورة ومن رام من المتفقين الانفصال عن صاحبه من الخدمة المذكورة فانه يسوغ نصفه من المواد المذكورة لصاحبه بكراء يتراضيا عليه و كذلك إن زيد في كراء الحانوت بعد استفاء الأعوام المذكورة تكون الزيادة عليهما معا و إن تسوغا أيضا حانوتا آخر بالبلد المذكور أو بغيره بقصد الخدمة المذكورة تكون عمارته من المواد و معين كرايه و مباشرة الخدمة فيه بينهما معا على الصفة المحكاة و إن ظهر لهما إحالة كراء أي مكان تسوّغا معا للغير لا يكون إلا بموافقة و رضاء منهم معا و لا يؤدي كل مباشر منهما للخدمة مدّة عامه كراء نصف الآخر من المواد .فعلى ما ذكر و صفته وقع بينهما الاتفاق المذكور اتفاقا تاما شهد عليهما بذلك حال الجواز و المعرفة الأوّل بتاريخ يوم الخميس رابع ذي القعدة الحرام من عام 1325 و التاسع عشر من ديسمبر من سبعة و تسعمائة و ألف”.
نستنتج من خلال هذا العقد أربعة بنود أساسية تلزم إلزاما كاملا طرفي الشركة و تتلخص في ما يلي: – يشترك الطرفان مناصفة في دفع كراء الحانوت و تزويدها بالمواد اللازمة للصّنعة. – يباشر الشريكان العمل بالتداول في شكل دوري سنة بسنة. – في حالة وفاة أحد الطرفين ينتقل نصيبه في شركة الحانوت و مباشرة الخدمة إلى ورثته. – في صورة الاتفاق على الاشتراك في تسويغ أو شراء محلّ آخر فان نفس الاتفاق يبقى نافذا في الشركة الجديدة . من الملاحظ أيضا أن هذا العقد لا يختصّ في تنظيم العمل بين طرفي الشركة فقط بل يتجاوزه ليضمن حقوق ورثتهما مما يحيلنا إلى أهميّة الصبغة الوراثية لهذه الصنعة .
2 – مؤسسة أمين الفطايرية :
يبدو أن صنعة الفطاير تمكنت تدريجيا منذ أواخر القرن التاسع عشر من أن تنتزع لها مكانة في صلب الحياة الاقتصادية بالعاصمة كغيرها من الصناعات الأخرى وتنتظم داخليا و هيكليا ضمن مؤسسة ” أمين الفطارية” . فقد أكّدت أقدم الوثائق التي عثرنا عليها حول هذا الموضوع وهي حجة اتفاق على تعيين أمين للفطايرية مؤرخة في سنة 1896، أنه كان لهذه الحرفة أمين قار قبل هذا التاريخ .يقول نصّ الوثيقة :” حضر الأجلاء (… قائمة مطولة لأسماء المتفقين) كلّهم معلّمين في صناعة الفطاير بالحاضرة وأشهدوا جميعا أنهم اتفقوا على كلمة واحدة و رأي واحد و قدّموا الأجل الأمثل الشيخ علي بن محمد اللولو ليكون عليهم أمينا يرجعون إليه في عرف صناعتهم المذكورة عوضا عمن قبلهو أنهم راضون عمن يقفون عند نظره في قانون الصنعة المذكورة حضورا و اتفاقا و رضاءا و إشهادا تامين …شهد عليهم بذلك حال جواز و معرفة بتاريخ يوم الجمعة 21شوال 1313 هجرية و 12 أفريل 1896 الإفرنجية” .
ينتخب أمين الفطايرية من قبل الفطايرية أنفسهم .فقد كانت كل مجموعة مطالبة بالاتفاق على مرشّح لتولّي منصب الأمانة ثم يقومون بتدوين بينة عدلية تتضمن قائمة للفطايرية المتفقين و اسم الفطايري الذي رشّحوه و أسباب ترشيحه ويرسلونها إلى الوزير الأكبر وشيخ المدينة ليتوليا التكفل بإجراء الانتخاب . ومن بين الشروط التي يرتكز عليها الفطايرية في بيّنات الاتفاق على مرشح لخطّة الأمانة هي أن يكون بالضرورة أصيل غمراسن ” من أبناء جنسنا” أو من” إخوانهم ” و ذو خبرة طويلة في ممارسة هذه الصنعة ” أول أحد من غمراسن عارفا في هذه الصنعة ” و عريقا في الصنعة “قديما في الخدمة” و ” متوفرة فيه شروط النظافة و العفة و الأمانة و الثقة ” . إذن يجب على المترشح أن يتمتع بثلاث صفات أساسية وهي المهنية والخبرة و خاصة الأمانة ليكون محل ثقة و كفؤا لهذا المنصب .وقد كان عدد كبير من الفطايرية يسعون للظفر بهذا المنصب لما يضفيه على صاحبه من هبة ووجاهة . كما أن السّلط الفرنسية لم تكن تتوانى عن القيام ببحث في السّجلات العدلية للمترشّحين و تحرص على نقاوتها من أي تهم أو شوائب لتضمن تجنب أي مشاكل أمنية مع الفطايرية . تتمّ عملية انتخاب الأمين بطريقة يمكن أن نصفها “بالديمقراطية”يراعى فيها تعدد المترشحين وعدد الأصوات و تقع في مكتب للاقتراع داخل مقرّ مشيخة المدينة كما كان يشرف عليها شيخ المدينة نفسه . ولا يتردّد المقترعون في التنديد بنتائج الانتخابات و المطالبة بإعادة إجرائها عندما لا تنتهي لصالح مرشّحهم . ففي تقرير حول ظروف إجراء انتخاب أمين قار للفطايرية يذكر الأمين المؤقت بأن عدد من الفطايرية تخلّفوا عن الانتخاب و طلبوا من شيخ المدينة إعادة إجرائه ولم يكتفوا بذلك بل توجهوا بعرائض لتسمية أمين ثاني مع الأمين الأول . وقد أخذت مطالبهم بالاعتبار ولكن عوض إعادة عملية الاقتراع فقد تمّت تسمية أمينان للفطايرية سنة1945 .وقد حددت منطقة نفوذ كل أمين عن طريق أمر عليّ مؤرخ في 6 سبتمبر 1945 يقضي بــ ” قسمة مدينة الحاضرة بالنسبة لأمانة الفطايرية إلى منطقتين تشمل أولاهما قسم المدينة الجنوبي و ربض باب الجزيرة و الثاني القسم الشمالي وربض باب سويقة” .
ويبدو أن السبب الأساسي لانتخاب أمينين ليس اختلاف الفطايرية حول من ينتخبون للأمانة بل هو ارتفاع عدد الحوانيت وعدد الفطايرية و انتشارهم في داخل المدينة و في أرباضها الشمالية و الجنوبية وهو دليل أيضا على المنزلة المعتبرة التي أصبحت تحضى بها هذه الصنعة مما استوجب تطوير مؤسسة الأمانة بما يتماشى مع حجم تطورها و إشعاعها ولا سيّما بعد تزايد فلول مهاجري غمراسن خاصة بعد الثلاثينات من القرن العشرين. كما تشير الوثائق الراجعة إلى سنة 1955 أيضا إلى” ما أصبحت عليه صناعة الفطايرية من رواج و انتشار بأحواز الحاضرة مما يستلزم تعيين أمين يراقب شؤونها و يفصل النزاعات التي تحدث أحيانا… يكون مركزها بحلق الوادي ” . و يبدو أن الأمر انسحب أيضا على مدينة طبربة التي خصص لها في نفس الفترة أمينا . يتمتّع أمين الفطايرية بعدّة مهام منها ضمان مصالح الصنعة بحل النّزاعات بين الفطارية وتمثيلهم أمام السلطة و نقل مطالبهم إليها .كما توكل له مهمّة الحفاظ على تضامنهم العشائري والمهني في مكان العمل . فقد ورد في نصّ وثيقة طالب فيها الفطايرية بالتعجيل بانتخاب أمين للفطايرية ، أن ” الفطايرية الآن مثل الغنم من غير راع تفعل ما تشاء” . كما يمثل الأمين مرجعا يعود إليه الفطايرية في كلّ ما يخصّ قانون الصنعة بسبب خبرته الطويلة في هذا المجال .وبالتالي فانه الراعي لأعراف الصنعة و لتقاليدها حتى “لا تقع في الفساد و عدم العرف” و تضيع مع الزمن مثل ما ورد على لسان الفطايرية .
III نمط عيش الفطايري و الصعوبات التي يعاني منها في مكان العمل :
1 – نمط عيش الفطايري :
يباشر الفطايري مهنته في حانوت تكون أيضا مكان لإقامته حيث يهيئ بداخلها مكانا مرتفعا يسمّى ” سدّة” مخصص للنوم ووضع الأدباش. وهي أيضا مكان لاستقبال الضيوف القادمين من غمراسن حيث تعدّ حانوت الفطايري مقصدا لكل غمراسني . ومن تقاليد الصنعة أن من حق كل ّ غمراسني قصد حانوت الفطايري أن يتناول “فطيرة الجدّ” مجانا و يكون من العيب أن يتقاضى الفطايري أجرها. حيث أن المحافظة على الانتماء و الهويّة له قيمة رمزية كبيرة بالنسبة للفطايري .
يسمّى الفطايري صاحب الحانوت ” المعلّم ” ( بكسر اللام) وهو الذي يباشر صنع الفطاير بنفسه و يستخدم معه معاونين يسمّون “صنّاع” مهمّتهم إعداد مواد العمل و يبيعون له السلعة و قد تتوسع مهمّتهم إلى التنقل داخل الأزقة لبيع الفطائر و تسمى هذه العملية بيع” اللّوحة”. يكون الصنّاع غالبا من أصيلي غمراسن المبتدئين في مباشرة الصنعة بحيث تمكنهم فرصة العمل كصنّاع من حذق تقنيات الصنعة ليصبحوا بدورهم بعد فترة “صناعيّة” و بالتالي يتم تداول هذه الصنعة من جيل إلى جيل .
تفرض بعض المناسبات على الفطايري استخدام يد عاملة إضافية بسبب وفرة العمل فيضطر إلى إدماج بعض العناصر غير المحليّة من المناطق المجاورة لغمراسن كالعبابسة أو الحوايا …أو حتى من أهل المنطقة التي يمارس فيها الصنعة لمساعدته في العمل وهو ما سهّل انتشار الدخلاء عليها في فترات لاحقة.
يتميز شهر رمضان وفصل الشتاء بذروة النشاط داخل حانوت الفطايري من حيث رواج المنتوج و ارتفاع العائدات المالية إذ أن الفطايري لا يكتفي بصنع الفطاير بل ينوّع من سلعه المعروضة بصنع بعض الحلويات الأخرى كالمخارق و الزلابية التي تعرف رواجا كبيرا في شهر رمضان و قد وصل صيتها حتى قصر الباي نفسه إذ يقول أحد الفطايرية في رسالة للباي يتلمس فيها توليته أمينا ” مولاي أني بسطت إلى سدّتكم مسألة ولايتي أمانة الفطايرية وأن عبدكم هو المخصص لجلالتكم بصنع الزلابية و المخارق في شهر رمضان المعظّم” .
تمتد فترة عمل الفطايري بين سنة أو سنتين خاصة بالنسبة للصّناع و العزّاب ثم يتركها إلى شريكه ليتداول عليها . يسمّى الفطايري خلال هذه فترة “المغرّب”. ويكون هاجسه الأساسي خلال مدّة تغرّبه تجميع أكبر قدر من المال لأنه مقوما من مقومات الوجاهة الاجتماعية و هو ما استنتجناه من خلال هذه الأبيات التي وردت في شكل نصيحة قالها أحد الشعراء من الفطايرية :
” دس الصوارد كان طاحوا فيدك و اربط عليهم ليتين و ليّة
بلا ناصري يضحك عليك انديدك و في بلادنا ما عاد عندك ديّة
ويمثل المال أيضا الأداة الوحيدة لتحقيق كل ما ينتظر الفطايري في بلده الأم من مشاريع تستوجب مصاريف باهضة مثل حفلات الزواج و الختان و القيام ببعض الأنشطة الفلاحية و البناء و غيرها من متطلبات الحياة اليومية . لذلك كان يفرض على نفسه نمط حياة على غاية من القسوة و الاضطهاد النفسي. فقد كان شديد التقشف في غذائه و لباسه إلى حدّ يجعله محلّ تندر واحتقار وتهميش اجتماعي .
لكن من المفارقة أيضا أنّه كان محلّ ثقة من قبل سكان الحيّ الذي ينتصب فيه لاتّصافه بالأمانة و التكتّم حتى أنه كان أحيانا يستأمن من قبل بعض العائلات الحضرية على ممتلكاتهم الثمينة ( كمصوغ نسائهم ) عند غيابهم عن المنزل . وبعد انتهاء مدّة عمله يقفل الفطايري راجعا إلى أهله بالمال و الهدايا ويبدو أن هذه الطريقة في العيش كانت كفيلة لتأمين عائدات مالية هامّة للفطايري حيث ذكرت بعض المصادر أنه سنة 1949 من جملة 1700 عائلة بغمراسن تعيش من موارد صنعة الفطاير كان نصفها يتلقى عائدات مالية بحوالي 350000 فرنك فرنسي كمعدّل لكل عائلة .
كما كان يحرص أثناء عودته كتعويض عن الوضعية التي عاشها في سبيل تجميع المال التّمتع بإجازته و الركون للراحة و السعي للظهور بكل مظاهر الترف و الأناقة و استعمال أرقى و سائل النقل كالخيول الأصيلة و استهلاك أفضل المأكولات .وهو مؤشر آخر على أهميّة عائداته المالية .
يتميّز نمط عيش الفطايري إذن بالتداول بين المتناقضات فمن الحرمان إلى التخمة و من القسوة إلى الرفاهية .وهو نمط لم يكن حكرا على الفطايري بمفرده بل يشترك فيه كل المهاجرين مثل الجرابة و المطاوة والدويرات وغيرهم و بالتالي فهو سلوك عام مرتبط بالهجرة و بحالة الحرمان التي يعيشها المهاجر بوطنه الأم ويسعى لتحسينها و تجاوزها بكلّ الطرق حتّى بواسطة حرمان آخر في مكان العمل.
2 – الصعوبات التي كان يعاني منها الفطايري :
إلى جانب متاعب العمل اليومي فقد ذكرت المصادر أن الفطايرية كانوا يعانون من عدة صعوبات و أزمات و ضغوطات . فلم تكن صنعة الفطاير بمنأى عن الأزمات المناخية و الاقتصادية التي تعرضت لها البلاد و النظام الرأسمالي عامّة وما تسبّب فيه من غلاء للمعيشة والمواد الأولية للصنعة كالدقيق ” الفارنية ” والزيت و تدهور للأوضاع الأمنية . فقد عرفت صنعة الفطاير كساد مميت و تراجعت مداخليها بشكل كبير خلال الحرب العالمية الثانية وهو ما اضطر عدد من الفطايرية إلى الرجوع إلى غمراسن إلى حين نهاية الحرب و انحلال مؤسسة الأمانة بعد استقالة أمينها
ويبدو أن أزمة الحرب العالمية الثانية لم تكن الأزمة الوحيدة التي تأثرت بها هذه الصنعة بل كانت معرّضة بصفة دورية للأزمات لارتباطها بتذبذب أسعار الزيت و القمح وقانون العرض و الطلب. كما عرفت هذه الصنعة فترات فوضى بتأخر تسمية الأمناء و انتشار الدخلاء عليها و تعددت تذمّرات الفطايرية من فرض أمناء غير مختصين وغير معترف لهم بالخبرة والكفاءة .هذا إلى جانب تعرضهم إلى مضايقات أعوان الإدارة الذين يفرضون عليهم أداءات مشطّة و خطايا باهظة و منهم من تعرّض حتى للإبعاد السياسي حيث أن الفطايرية لم يكونوا بمنأى عن الحياة السياسية في تلك الفترة فقد كانوا منخرطين في الحزب الدستوري وساهموا في بيع اشتراكات الحزب . وقد كان الانتماء العشائري يلعب أحيانا دورا سلبيا لتأثيره على مسألة انتخاب الأمناء وهو ما أدّى إلى نشوب صراعات ضيقة و ضمنية بين العروش كانت من بين الحوافز لدى سلطة الحاضرة للاعتراف بأمينين للفطايرية
كما وردت عدّة شكايات عن بعض أمناء الفطايرية الذين كانوا يأخذون الرّشاوي و يمارسون الضغط على الفطايرية لدفع بعض الاداءات متوخّين أساليب متعددة و منها تعلّة حمايتهم من تنفيذ بعض الإجراءات كالتي تعلقت بالوقاية الصحية للحرفاء و التي تفرض على الفطايرية وضع مكبات على الطواجين ويبدو أن الفطايرية تملّصوا من هذا الإجراء لأنه غير ملائم لصنعتم ومضرّ بصحّتهم. الخاتمة: في الختام يمكن أن نقرّ بأن صنعة الفطاير تمكنت من خلال مسارها التاريخي من أن ترتقي من مجرّد صنعة هامشية إلى صنعة لها مكانتها داخل النسيج الاقتصادي العام بشمال البلاد بفضل صرامة قواعدها و دقّة أنظمتها و تنويع منتوجها وحفاظ محترفيها على تماسكهم الداخلي و انتمائهم العشائري. ممّا جعلها ظاهرة اقتصادية واجتماعية وثقافية تجاوزت صفتها كمورد رزق لأصحابها إلى نمط في العيش و التفكير و السلوك.

ٳعداد : فاطمة جراد

قد يعجبك ايضا
تعليقات