بقلم _سالي جابر
هل أصبحت أنت؟ أم أنك صورة خاوية لشخص أخر تمنيته في خيالك، وخٌيل إليك أنه قدوتك؟!
وإذ بك فجأة تسقط في بئر الظلمات، فقد ظلمت نفسك بصورة لم تكن لك، الحياة قصيرة نعيشها ونحن في فقاعة كبيرة إذا نفخت فيها تطير بك لمكان أخر، ربما تتحول سحابة تسقط مطرًا في بلادٍ بعيدة، لا تستطيع أن تستمع إلى أهلها، اللغة مختلفة، والفكر أيضًا مختلف، بالطبع سمعت عن قصة حمار جحا، وبالطبع تعلم أن إرضاء الناس غاية لا تُدرك؛ لكن لمَ هي غاية من الأصل!
الغاية الأولى والأخيرة التي يجب أن تضعها أمام نفسك؛ ألا تكون حياتك فقاعة تعيشها متجنبًا أي هزة هوائية، أو مجرد نفخة هواء
هذا الحوار المرن المتزن قرأته اليوم في ورقة الصحيفة التي غلفت الفلافل – كم كانت رائعة- والحمد لله قرأته بعد تلك الوجبة الشهية؛ إفطار المصريين وفطارنا خاصة في ذاك البيت البائس الحزين؛ الأم تبكي على سنوات عمرها الضائعة بين خدمة الأبناء وتجاهلهم لها التي صنعته هي بيديها ومجده أولادها، والأب ينظر إلى شعره الأشعث، ونظارته القابعة على أنين الذكريات… ما من أحدٍ في هذا البيت إلا وصنع له فقاعة نفسية تمتليء بالهواء الفاسد، تطفو على سطح الحياة إلى أن ينهيها غُليون الواقع الأليم، لا يقتربون من الحقيقة ولا يبتعدون؛ بينما هم في المنتصف دائمًا.
من يدرك حقيقة الحياة إلا الموتى، وهل بالفعل منهم من يتمنون العودة للحياة مرة أخرى؟!
في وسط تلك الأسئلة التي تدور في رأسي رددت ابنتي الصغري الآية الكريمة:” ربي ارجعون لعلي أعمل صالحًا فيما تركت” يا الله! إنهم معذبون ولهذا يتمنون العودة للقيام بصالح الأعمال، صراط مستقيم، ونار ملتهبة من قديم الأزل، وسؤال الملكين، وضمة القبر، « سلم يارب سلم» لا أود الموت الآن.
وجاءت ابنتي الوسطى من مدرستها متأففة من كثرة دروسها وواجباتها المدرسية، حتى أنها لم تلقِ السلام على أهل البيت، وكعاداتنا نحن المصريبن نسخر مما حولنا حتى في حزنه، قلنا لها جميعًا وفي نفس اللحظة” عليكم السلام ورحمة الله وبركاته” نظرت إلينا نظرة الثور الهائج، مكدرة، ووجها لا يوحي إلا بالغضب، امتلأت باليأس والإحباط، وإذا ضغطنا عليها فاضت بأحزانها أغرقتنا عبسًا وضيقًا كنهر فاضت مياهه وأغرقت البلدة، كيف لهذه الطفلة أن تُكشر عن أنيابها هكذا، ألهذا وصل بنا الحال، حتى تلك الطفلة؟!
يا الله… لا أود الحياة، ولا أريد الموت، ولا أعلم ماذا أفعل لأكون مع الصالحين، ولا أعلم هل أنا مع الخاسرين؟!
تائه في هذه الدنيا، وقررت الأم أن تنجدنا من هذا الصمت الرهيب والحزن المنكسر في ضلوعنا بوجبة غداء كنت أظنها دسمة، إنما كانت من خيرات الأرض من فومها وعدسها وبصلها، كانت وجبة شتوية رائعة تحمل كل فيتامينات الفقراء، بها بروتين السعادة( شوربة عدس) إنني أحبها، لكن معدتي بدأت تشتكي من هذا الحب اللعين، وجلسنا حول منضدة الطعام الصغيرة، لا أحد يقترب من الطعام، كنوع من الاعتراض الجميل؛ فإذا قمنا بالإضراب عن الطعام، افترسنا الجوع.
تخوفت من النظر في عين زوجتي حتى لا أسمع منها جملة الزيجات المعتادة( اطبخي يا جارية، كلف يا سيدي) ياويلي من الحوار الذي يدور بعد تلك الجملة، أسمع أنينه في أذني دائمًا” لا أملك سوى هذا المال، أسرق، أنهب، فترد بكل سخرية، أعمل بوظيفة أخري، لا ترحمني زوجتي، ولا بناتي.
سئمت الحياة وخفت الموت، ولا أقوى على الانتحار، اللهم مالًا حلالًا يسد فم زوجتي، ويسعد بناتي .
وفجأة سمعنا طرق على الباب، تركت الملعقة وذهبت لأرى من بالخارج، فإذا بها هادم اللذات ومفرق الجماعات؛ حماتي الفاتنة، أم زوجتي التي لا تتدخل في شؤون غيرها، إنما هي تخشى علينا فقط، فعلمت تمام العلم أن ترك البيت الآن لأي سبب انتحار لأخلاقي، وتدني في تربيتي، أما النوم فهو محرم حسب فرمان زوجتي المصون، من قال إن الزواج رائع أظنه انتحر الآن، ومن قالت بالحب نحيا ونزدهر، أود منها زهرة شبابي الضائعة في هذا البيت.
نظرت إلى صورتي في المرآة، تأملتها جيدًا وسرحت بخيالي بعيدًا، وطرت بألة الزمن إلى الماضي الجميل، صغرت بفكري حوالي عشرين عامًا، يا الله؛ كم كنت جميل الوجه والابتسامة، أحب عملي كثيرًا، ناجح في دراستي لكن دق الحب على باب قلبي دون استئذان، ورأيتنا وهي بفستانها الأبيض عن يساري تبتسم، كتائه في الصحراء ووجد ماء، كعصفور صغير خرج إلى الدنيا خائف فاحتضنته أمه، واليوم نلعن ذلك اليوم بلا مراعاة لأحد.
مضطر العودة إلى الحاضر ومواصلة مهامي، والخوض في حروب ليست لي، وإلا فأنا زوج فاشل، قررت أم زوجتي أن ترحمني من عبثيتها بالنوم، اللهم ارحها دائمًا، والحمد لله سوف أنال قسطًا من الراحة قبل بداية يوم جديد، والانشغال في دائرة العمل، والانخراط في صمت الحياة بفقاعته الممتلئة بالهواء الفاسد.
أشرقت الشمس واخترقت نافذة غرفتي، وصبت أشعتها على عيناى، فاستيقظت وأفقت المنبه الذي لم يوقظني يومًا قط، وجدت زوجتي وأمها في الخارج، يا له من يوم جميل يبدأ بحوار لا يخلو من الهمز واللمز والغمز، اللهم ردنا إليك ردًا جميلًا، وارحمنا نحن معشر الرجال من اتفاق امرأتين، وبابتسامة مودع يأمل ألا يعود قلت وأنا لا أنتظر الإجابة” ماذا تريدان عند عودتي؟”
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية