القاهرية
العالم بين يديك

موعد مع أبي

297

 

بقلم/ سالي جابر 

كان الصوت يناديني، وهالة ضوء أبيض تقترب مني، إنه صوت مألوف إلى قلبي. لم أشعر بالخوف من هذا المكان الغريب؛ إنه فارغٌ تمامًا ولا أفهم تفاصيله … كان جزءٌ منه نيران بعيدة عني والآخر نسمات هواء حانية وزقزقة عصافير، وكان الصوت يقترب كثيرًا…دققت فيه السمع فوجدته يناديني ويقترب، وكلما اقترب مني زاد معه غناء الطيور وكأنني في قطعة من الجنة، إنه أبي فقال: “لا تخافي يا عزيزتي، إنه الموت الذي لم يترك شيئًا على حاله، أترين أنني تغيرت كثيرًا؟ ثم سألني ماذا تعرفين عن الحياة؟ إن الموت هو الحقيقة الثابتة في هذه الدنيا، حقيقة يجهلها الأحياء ولا يعلمون العبرة من الموت. ابتسمي ولا تخافي فأنا معك”.

استيقظت من نومي في ريبة من أمري أكان حُلمًا أم خيالًا؟ حاولت تذكر كلمات أبي ثم شردت مع نفسي في العبرة من الموت.

إننا نتألم كثيرًا عند موت عزيز علينا، ونبكي ونحن نودعه، تضيق بنا الحياة زرعًا، نقف في منتصف الطرقات لا حول لنا ولا قوة، نعيش بلا قلب؛ فهو دُفن مع من فُقد . طال شرودي وأنا أفكر بالأمر ثم ابتسمت حين تذكرت قول أبي”أتغيرت كثيرًا؟” لقد تغير بالفعل كان أصغر بسنين واختفت الشعيرات الرمادية من رأسه وحلت مكانها شهيرات سوداء كاحلة تتراقص فَرِحة وتتمايل مع نسمات الهواء،وأسنان صحيحة كاملة ناصعة البياض أضافت إلى جمال بسمته جمالًا، وفي صوته عذوبة وقوة لم أعهدها عليه وقُلت في سري:” لا أخاف يا أبي طالما أنت بجانبي”.

أفاقتني من شرودي رنة هاتفي وأكملت يومي منتشية بالحديث مع أبي؛ فكلما رآني أحد وجد الفرحة مرسومة على وجهي بريشة فنان، يتعجبون من نبرة صوتي الحانية، لكنهم لا يعلمون مع من كنت البارحة؛ فالليل حينما ينقضي مع من نحب نستيقظ في قمة البهجة والنشاط والأمل.

فتحت دولابي وارتديت فستانًا أبيض وخرجت في الصباح الباكر ليوم الجمعة ذاهبة لقبر أبي، ألقيت السلام على من بالمكان وجلست أمام قبره. وبصوتٍ هادئ تلوتُ سورة الكهف وعندما وصلت للآية التي تقول:” إنك لن تستطيع معى صبرًا” أعدت قراءتها كثيرًا وكأنني أقرأها للمرة الأولى. لماذا لم نصبر على ما نجهل ونحاول فهم الحقيقة؟ وبعد الانتهاء من قصة سيدنا موسى مع الخضر تأملت قليلًا أن الأمور ليست كما تبدو، ثم قصصت الكثير والكثير على أبي، وسمعت صوتًا يقول من بعيد (لا تخافي…إنك تستطيعين الصبر يا عزيزتي، لم تشغلكِ الحياة كثيرًا…ستفعلين وسأفرح لأجلك).

ثم استيقظت من النوم وأنا أتعرق كثيرًا ولا أدري ما هذا؛ فتوضأت وصليت، كنت خائفة من المجهول ثم اطمئن قلبي وأنا بين يدي الله، وارتديت ثوبي الأسود وذهبت لأبي، ألقيت السلام ؛ فهدأت روحي عندما وجدت زروعًا وطيورًا تلتف حول قبره، وانشرح صدري وتدفقت الكلمات على لساني كسيلٍ عرم، دق قلبي وأنا أقص رؤياى.

السلام عليك يا أبي، لقد فقدت معك روح الأيام، فتناولتها كما نتناول الدواء، وتناولتني كما يفعل القسورة بفريسته، وكأنني أعيش حربًا يا أبي، تدور الدائرة ولا نرى لها مأرب، ينتهي الألم ولا ننتهي منه، تحملنا السنون وتُلقينا بعيدًا فوق التلال، نعبر الطرقات ونجهل ما خلف الأسوار… ولكن في وقتٍ ما نفيق من غفلتنا ونتساءل ماذا بعد الموت؟

أجبني يا أبي، ماذا بعد الموت؟

جنانٌ وأنهار خلد أم وديان من نار تحترق معها الجلود وتتبدل بأخرى؟

حتى الخيال فيها عسير. أُريدك معي يا أبي في أحلامي لتخبرني عن حالك وتنصحني لحالي، سأتركك هنا لأراك في منامي بعد ساعات.

حملت أمتعتي وودعت أبي وذهبت إلى منزلي، وليلًا أعدت قراءة الآيات السابقة بتَفَهم وإدراك، وأخافتني كثيرًا الآية التي تقول:” يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد وأُزلفت الجنة للمتقين غير بعيد…” سورة ق .

هل نحن مما تتجهز لهم الجنة أم ممن تربدهم النار؟

توضأت وتعطرت وارتديت أجمل ملابسي؛ فإنني على موعد مع أبي، وما أجمل لقاء الأحبة بعد الغياب!

قد يعجبك ايضا
تعليقات