د/ زمزم حسن
قصر الخورنق، فكافأه الشاهنشاه بأن ملَّكهُ على العرب، ومنحهُ مرتبتين سُنيتين وكِسوة على قدر منزلته، واعتنى النُعمان بتربية الأمير حتّى شبَّ ومات والده. وعمل المُنذر بن النُعمان على دعم ومُساعدة بهرام گور حتَّى يصل إلى عرش فارس، بعد أن حاول بعض أهل مملكته إقصاءه عن سُدَّة الحُكم لِنُشوئه في بلاد العرب وتخلُّقه بأخلاقهم وعاداتهم وتقاليدهم، بما في ذلك التقاليد المسيحيَّة التوحيديَّة التي دخلت واستقرَّت في نُفوس عرب الحيرة، ولأنَّهُ من وِلد يزدجرد الأثيم الذي اشتهر بِسوء السيرة، فقدَّم المُنذر قوَّةً عسكريَّةً إلى بهرام گور مكَّنتهُ من استرجاع عرشه، وبذلك زادت مكانته في البلاط السَّاسانيّ.
هذا النهج فأغار على الغساسنة وأجبرهم على دفع الأتاوة، ووسَّع نُفوذه حتَّى شمل العراق كُلَّه والأردن حتَّى اليمامة، وغزا بني تغلب وطيء وتميم. وفي عهد أبو قابوس النُعمان بن المُنذر، تدهورت علاقات عرب الحيرة مع الفُرس، فألقى كسرى القبض على النُعمان وحبسه حتَّى مات. وانتهى بوفاة النُعمان حُكم اللخميين أو المناذرة في الحيرة، لأنَّ كسرى عيَّن مكانه رجلًا من طيء اسمه إياس بن قُبيصة، وقد أدّى زوال أُسرة المناذرة إلى تحطيم الحاجز الذي أقامه الفُرس أمام العرب، فانكشفت الإمبراطوريَّة الساسانيَّة، ووقفت القبائل العربيَّة وجهًا لوجه أمامها، إذ لم تصُدُّهم قُوَّة، فأخذوا يشُنون الغارات على أطراف الإمبراطوريَّة في العراق وساعدهم على ذلك الاضطراب الداخليّ بفعل الصِراع على السُلطة وانهماك كسرى بالحرب مع البيزنطيين، وتوغَّل بعضهم داخل العراق، وما لبث أن اشتبك العرب والفُرس في مُواجهةٍ كبيرة عُرفت باسم «معركة ذي قار» أو «يوم ذي قار» عندما أراد كسرى استرجاع مال وسلاح النُعمان بن المُنذر وكان الأخير قد أودعه لدى هانئ بن مسعود الشيباني، ورفض هذا تسليمه، فأراد كسرى استرجاعه بالقوَّة، لكنَّ جيشه انهزم أمام العرب وولّى الأدبار. عزل الفُرس على أثر خسارتهم في ذي قار، إياس بن قُبيصة الطائيّ عن حُكم الحيرة، وعيَّنوا عليها حاكمًا فارسيًا هو آزاذبه بن ماهان الهمذاني، إلَّا أنَّ هذا لم يتمكّن من إن يُعيد الثقة التي كانت بين المناذرة والأكاسرة وأن يُحسِّن العلاقة التي ساءت بين العرب والفُرس، فاستقلَّت القبائل العربيَّة التي ارتبطت بالإمبراطوريَّة الساسانيَّة في البحرين وأواسط شبه الجزيرة العربيَّة، ما اضطرَّ الفُرس إلى أعادة أحد أبناء النُعمان، وهو المُنذر المغرور، إلى حُكم الحيرة، وفي روايةٍ أُخرى أنَّ عرب الحيرة استغلّوا الاضطراب الدَّاخليّ في فارس بفعل الصراع على السُلطة، فعزلوا آزاذبه وأقاموا المُنذر مكانه، ولم يكن أمام الأكاسرة سوى الاعتراف بالأمر الواقع. وفي تلك الفترة، كان الرسول مُحمَّد قد وطَّد دعائم الدولة الإسلاميَّة في المدينة المُنوَّرة، وأرسل العديد من الرسائل إلى الحُكَّام المُجاورين، ومنهم نجاشي الحبشة أصحمة بن أبجر، وهرقل قيصر الروم، والمُقوقس قيرس السَّكندري عامل الروم على مصر، وكسرى الثاني شاه فارس، يدعوهم فيها إلى الإسلام، وقد قام عبدُ الله بن حُذافة السهميّ بنقل رسالة الرسول إلى كسرى، وكان نص الرسالة كالتالي: «بسم الله الرحمن الرحيم، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، وَآمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ وَأَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللَّهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً؛ لأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ. فَإِنْ تُسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الْمَجُوسِ عَلَيْكَ». وقد أثارت تلك الرسالة غضب كسرى، فأمسكها ومزَّقها وقال: «عَبْدٌ مِنْ رَعِيَّتِي يَكْتُبُ اسْمُهُ قَبْلِي»، وسبَّ النبيّ، فلمَّا بلغته هذه الكلمات دعا على شاه فارس وقال: «مَزَّقَ اللَّهُ مُلْكَهُ».
رئيس مجلس إدارة جريدة القاهرية