القاهرية
العالم بين يديك

ما أبعد الماضي وما أقربه

420

بقلم_ محمود أمين

عودة إلى الماضي في دقيقة يجلس فيها المرء، يراجع فيها فكره للوراء البعيد كفيلة بضيق ليلة أو ليلتين، وقد يتعدى الأمر في ألمه ومرارته من مجرد ضيق إلى مآلات تستبيح عبرة وتخطف أنفاس، وتلتهمنا في زاوية الحزن، وكأن عودة الماضي هي سير على حد سكين.
فيروز في أحد مشاهد (مسرحية لولو) قالت باللهجة اللبنانية: أقرب الناس إلك لما بتغيب وبتطول بيكونوا دبروا حالهم من دونك، أخدوا مطارحهم، مرتك، ولادك، تختك ع بيناموا فيه، أوضتك كبروا وسكنوا فيها، إذا رجعت بتكون راجع من الماضي تخربط حياتن.. اللي بيروح مش لازم يرجع.
إلى أين يسبح هذا الفكر؟ مع هذه الكلمات التي تؤلم، وهل نملك غير الألم نقوده إلى عيش بماضٍ في الحاضر وحاضر في الماضي، وهل الإنسان يملك إرادة في غلق أبواب ماضيه؟
الماضي يأتي لا محالة ويدوي صوته في مسمعنا كلما مر موقف يشابه أو حتى انفردنا بأنفسنا ساعة لا يكون لحظ الحاضر فيه سوى بض دقائق والباقي تولى أمره الماضي كغراب يحط ويلتفت في حذر من أرض لغص ومن غص لجدول ماء فأنت وغرابك أقصد ماضيك.
ما أبعد الماضي وما أقربه!
ترى كانت حياتنا بهذه العفوية أمام كل هذه المنعطفات، ثم يأتي الماضي من بعدها سجلًا مقدسًا واجب علينا احترامه وتوقيره، و تجارب الحياة المستقبلية تقول للماضي ما رأيك في هذا؟ والماضي يقول وفي قوله البلاغة والبيان. إذا جلست الحكمة وتحدثت كان القول السجي في حلق الماضي، والديباجة المحكمة في يد الحاضر.
نحن بخير ما دمنا بعيدين عن الماضي ويد النسيان عاجزة عن قبضه، وكيف ليد أن تقبض على جمر متقد.
إذا استقبل المرء الماضي بيد واحدة فقد عجز عن ملاقاته، وإنما إذا فتح ذراعيه بهدوء واحتضنه وأحسن استقباله لألقى عليه من جميل الفضل، فما هو إلا نحن والعجز لا يقدم للمعرفة شيئًا والمعرفة الغابرة أحق بالدراسة عن المعرفة المقبلة، فلا تفتح عينًا على مستقبل وأخرى على ماضٍ تتحسر عليه فقد تعلقت بينهما، بل كلما وسعت نفسك له كلما استصغر أمامك واحتوته نفسك وأدركت أن ماضيك لا يضيق بك بل أنت ضائق به.
عجبًا لهذا الماضي يحبه من عاش في حاضره به، ومن عاش بماضيه في حاضره خاف منه فهو شقي من أهله، ومثل هذا إذا عرضت له نبذة من ماضيه كان أشد الناس تعاسة وخيّل إليه أنه الوحيد الذي يعاني ويحمل فوق ظهره حمل بعير.
اللهم إنك أنت ربي وقد تأملت آمالًا أشتهيها كالنجوم في صفحة السماء باهرة لم أبلغها، وأهديتني مصباحًا منيرًا فكان المصباح في بيتي أشد إضاءة من نجوم السماء. فاللهم لك الحمد على حكمتك البالغة.

قد يعجبك ايضا
تعليقات