القاهرية
العالم بين يديك

ذكريات نهار المسِلِّي

141

بقلم/شفيق بن البشير غربال من صفاقس
متابعة عبدالله القطاري من تونس

غير بعيد عن عيد الإضحى و مظاهره الاجتماعية يطيب تذكّر أجواء كانت تجمع العائلات وتشيع أجواء من البِشْر والفرح . قطرات دم الكبش يرجو بها المضحّي الأجر والثواب واللحم يُراد منه التصدّق والهدية والأكل والادّخار . والمتداول في كل المدن ولا أقول في صفاقس فقط الادخار من الأضحية قديدا مؤونة لباقي السنة أي من العيد إلى العيد . وأذكر في مدينتي قولا :” الكبش للذبحان والنعجة لزير الدهان ” . وهذا المبدأ الاقتصادي له ما يبرره في عقود سبقت لعدم توفر الثلاجات و المبردات الحديثة كونجالاتور وفريڨو . والقديد الذي يُدّخَر من الأضحية يخضع لمراحل في إعداده ليصبح ” المسِلِّي ” في القزدرية أو التناكة أو الزير وهو إناء فخاريّ مطليّ .
أثناء تقطيع لحم الأضحية يخصص ماعون للقديد يُتّخذ من الشحوم العالقة باللحم وقطع من اللحم وشحم الألية و الشلافط والمنديل التابع للدوارة والرئتين و من الكرشة و المصارين غير التي تُستبقى لعمل أكلة الدوّارة بصفتها المعروفة في صفاقس . يرقّد القديد المعدّ في إناء به ماء وملح وثوم الى الغد .ثم يُستقطَر في كسكاس و يُحضَّر إناء آخر به زيت وتابل وكروية و فلفل أحمر وأحيانا يضاف بعض النعناع المرحيّ ؛ وتؤخَذ قطع القديد واحدة واحدة وتُغمَس في الخليط المتبّل ثمّ تنشر على حبل أياما حتى تجفّ . وللمعلومة لم نكن نسمع بتهدد القديد بالتلف وسريان الدود فيه في المناخ الحار صيفا وبصفة خاصة في الخريف بسبب الرطوبة؛ وكانوا يتوقّون هذه الوضعية بجعل القديد سيورا دقيقة .ثم أصبحنا نرى القديد يفسد بسبب تغيّر المناخ وتلوّث الجوّ . وفي هذه الحالة كانوا يؤخرون النشر حتى يبرد الطقس وتتلطف الحرارة وحين أصبحنا نعتمد على الثلاجة صاروا يحفظون القديد في الثلاجة مدة . وبعد أن يجفّ القديد المنشور تعدّ العُدّة لتسليته بعد التعصبين و إعداد حزم من القديد نسميه ( كركوش) وفي أماكن أخرى عصبان . وتتكون الكركوشة من قطع طوليّة من الرّئتين و البلعوم و القلب وسليّخ شحم تُلفُّ بقطعة كرشة ثم تُلفُّ بمصارين وتُعْقَد جيّدا في شكل سلسلة مترابطة الواحدة تلو الأخرى .و بالنسبة إلى القديد يوضع في طنجرة ويضاف إليه بعض الزيت ويترك على نار هادئة حتى يخرج الشحم زيته ثم يضاف إليه بالتدريج الزيت و يُعرف نضجُه بتغير لونه حتى يصبح غامقا . أما الكركوش فيُحمى له الزيت مسبقا ثم يصبّ فيه ويبقى على نار هادئة حتى يستوي نضجُه ثمّ يُصبّ في وعاء آخر نهائي. وبعد أن يبرد يصبح قالبا جامدا تأخذ منه ربة البيت بملعقة الطبخ ( التطييب) الخشبية أو المعدنية بما يكفي لحاجة العائلة في ذلك اليوم .
نهار المسِلِّي يوم مشهود في طفولتي ننتظره بفارغ الصبر لعظم حركته و اجتماع أخريات مع أمي رحمها الله ومن ماتوا .ولكم أن تتخيوا الأجواء في تلك الأصبوحة التي قد تأتي على كلها والظهر موعد لنهاية تلك الحركة . إنّه يوم آخر للعيد . فيه يعلو شوقنا لتذوق المسلّي على قطعة من الخبز السّخن وخاصة إن كانت شحمة طرية ! فكنّ يلبين طلباتنا رغم ضغط ما يشرفن عليه . وكما هي عادة سكان الغابة إذا وصلت رائحة المسلي الى الجيران وهم لم يجهزوا قديدهم ( المسلي) بعدُ نحمل إليهم صحونا ونقول لهم :” أمي تسلم عليك وقالتلك ذوقوا مسلينا وكل عام وأنتم بخير وربي يحييكم لأمثالو ” .
ومن طرائف ما سمعت عن احتفاء أجدادنا بنهار المسلي إعداد وجبة (الدّغجة) وهي جردقة بالدهان .والجردقة خبزة قوامها دشيش الشعير تنضج في طاجن الجرادق الفخاري على نار الحطب . ومن مميزاتها أنها تكون صلبة يلزمها أسنان طاحنة لا ترحم ولا تعرف الهوادة .و لكم أن تتخيلوا هذه الوجبة وأيّ معدة ستستقبلها وماذا سيترتب عليها !
ولا يبقى من احتفالات عيد الكبير الا رأس السنة الهجرية الجديدة ( راس العام العربي) و طقوسها الاجتماعية فضلا عن تمظهراتها الدينية .
تغيرات كثيرة في تعاملنا مع منتجات الأضحية من الطبخ على الحطب إلى استعمال البابور إلى استعمال المطبخة و الفرن الكهربائي و الميكرو أوند .. كل شيء تغير حتى عاداتنا الغذائية فلم نعد نأكل الدسم كما كان آباؤنا وأجدادنا بل يذهب بعضهم الى إلقاء الشحوم في القمامة أو لمن يستحقها من المحتاجين . ولا أدري أصحيح القول إن أجدادنا أكلوا الدسم من كل شيء وحافظوا على صحتهم لأنهم كانوا لا ينفكون عن النشاط والحركة أي يحرقون الدهون و أظن هذا كافيا مقارنة بخمولنا و راحتنا ورفاهيتنا في العيش. ومما رأيته واستحسنته عدم استعمال زيت قلي الكركوش و القديد وتخزينهما في أوان بلورية وإضافة قليل من زيت الزيتون نيّئا إليها . كما يغلّى لحم العلوش قليلا ويلقى ذلك الماء والغرض من ذلك التخلص من النسبة العالية من الدهون المشبعة والضّارّة .
الحنين يمتعنا بتجلياته ودقائقه ولكن العادات الغذائية في ذلك الزمان لا تتناسب وظروفنا الحياتية . نحن أبناء اليوم ازدادت معارفنا الصحية و أصبحنا نتوقّى من الأضرار المتوقعة من باب الحمية وما شاء الله كان .
سلمتم من كل سوء وشرّ وأدام الله عليكم الصحة التامة في الصغر والكبر فهي تاج على رؤوس الأصحاء .

مفتون بالماضي الجميل : شفيق بن البشير غربال

قد يعجبك ايضا
تعليقات